تحدث الفلاسفة وعلماء الاجتماع عن أن الإنسان مفطور على
الاجتماع وأنه لا يستطيع العيش معزولاً. والأعراف والعادات والتقاليد هي وليدة هذا
الاجتماع الإنساني عبر مراحل تطوره الخاضعة للبيئة الطبيعية والثقافية والعمرانية
والدينية. فالإنسان الفرد ابن بيئته الجمعية: يعيش كما يعيشون، يأكل كما يأكلون
ويلبس كما يلبسون، ويتعامل معهم باللغة التي يألفونها ويفهمونها ويعقلونها....
والأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية هي ما تنتجه وتزرعه الثقافة الجامعة في
كيفيات سلوك الأفراد وعقولهم خلال سيرهم وتطلعهم إلى حياة اجتماعية (الفرد مع الآخر)
متآلفة، منسجمة، وفي الوقت نفسه مسالمة ومطمئنة. والأعراف والعادات والتقاليد
الاجتماعية هي قيم بذاتها: لها معانيها وترابطها ودلالاتها داخل الجماعة والفرد،
وتبعث على الارتياح. وهي تستمر وتقوى وتشتد وتتعمق في وجدان الأفراد عندما تكون
قادرةً على أن تشبع غريزة الأنا الذاتية والجماعية، بحيث لا تبعد الفرد عن الجماعة،
ولا يختل توازن الجماعة بما هي مرجع القوة للجميع، يعني الكل مع الكل.
إذاً،
فالعادات والأعراف والتقاليد لها قدرة على تحديد سلوكات الأفراد وأفعالهم بحسب
الزمان والمكان عندما تكون هذه العادات والتقاليد حاجةً ضروريةً واستجابةً
لأخلاقيات متداولة بين أجيال الجماعة. فالولد يُقلِّد أبويه، ويأخذ العادات
والتقاليد ويتعلم الأعراف منهما وطريقة التعامل مع الآخر داخل البيئة الاجتماعية،
فيقوم بما يقومان به في المأكل والمشرب واللباس والتكلم والتدين، فيتعود ما تعودوا
عليه ويراه جميلاً وأخلاقياً وأساساً، كما جاء في السُّنَّة النَّبويَّة الشريفة: "كل
مولود يُولَد على الفطرة إلا أنّ أبويه يهودانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه" (1).
هذه القضية من القضايا التي واجهها الأنبياء عليهم السلام فيما خصَّ عبادة الإله
الواحد وطرق العبادة، وخاصة مع النبي الأكرم عندما واجه عتاة قريش من المشركين،
وحاول أن ينقلهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الله سبحانه وتعالى. كان جواب هؤلاء:
﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾
(الزخرف: 43) وكذلك
﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا
كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾
(الشعراء:26). ولقد تحدَّث علماء الاجتماع عن هذه المسألة، معتبرين ذلك من
طبائع البشر، لما لهذه الأوضاع الاجتماعية من قوةٍ وتأثيرٍ على العقل ومألوفه.
وكذلك تحدث الشاعر المتنبي عن ذلك في قوله: "لكل امرئ من دهره ما تعوّدا" (2).
وهكذا تصبح الأعراف والعادات والتقاليد شائعةً، تسكن حياة الأفراد ويتماهون معها،
تميّزهم عن غيرهم، فيشار إليهم بها. وهكذا تتطور التقاليد وتصفى الأعراف والعادات
بما ينسجم مع كنه المعتقد الذي تدين به الجماعة.
* العرف /الأعراف
والعرف هو ما استقرَّ في النَّفس من معارف موروثة متعارف عليها ما بين الجماعة. وهو
تصرُّفٌ اجتماعيٌّ ينشأ من العادات والتقاليد التي انتشرت شيئاً فشيئاً فأصبحت حساً
مشتركاً اجتماعيَّاً. فالعرف إذاً هو قاعدة تلقائية نابعة مباشرةً من المجتمع، لم
يتمّ التّشاور بشأنها عامة، ولكن يعرفها ويعترف الجميع بإلزاميتها. لذلك عُدَّ
العرف أحد مصادر التشريع. وهو جزء من مجموعة القواعد القانونية التي تنظم العلاقات
الاجتماعية عندما لا يوجد قانون مكتوب له صفة الإلزام. والعرف عام وخاص. العرف
العام هو ما تسالم عليه جميع أفراد المجتمع، وهو بمثابة القانون العام. والعرف
الخاص هو ما يتعلق بقضية محدودة، مثل الميراث والزواج والطلاق والمهر.. إلخ.
والأعراف أيضاً هي ما يطبِّقه الناس من علاقات بمعزل عن السلطة العامة. ولهذا الأمر
مكانة في تاريخ الأمم وظواهرها الاجتماعية الخاصة. وهناك من يتحدث عن العرافين
والكهنة في الأزمنة الغابرة (الجاهلية)، حيث كان يُعتقد أن العرَّاف أو الكاهن له
جنّيٌّ خاصٌّ يطلعه على كل شيء، ولهذا كان الناس البسطاء يذهبون إلى العرّافين
الذين يُطْلِعُونَهم على مستقبلهم أو على حالهم. يقول أحد الكتاب: "أجل كان للأعراف
والتقاليد الاجتماعية شأنها وأثرها لدى الحكَّام الإقطاعيين في العهود المتخلّفة...
وخصوصاً في الأرياف النائية حيث كان الحاكم الإقطاعي يرجع إلى هذه الأعراف في
العادات والتقاليد كقانون محترم في الكثير من الأمور، في تسديد أموال الميري
والضرائب وما شاكل من مسائل علاقة الإقطاعي بالمجتمع" (3).
والأعراف لها
إيجابياتها الاجتماعية في الحفاظ على ما تسالم عليه المجتمع، من حلٍّ لقضايا
مستخلصة من تجاربه الخاصة، بما يؤدّي إلى سلم اجتماعي، إلا أن للأعراف في المقابل
دوراً سلبياً. فكم عانى رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام
من أعراف كانت موجودة في الجاهلية، أراد بعض عتاة قريش أن يطبقوها في العهد
الإسلامي الأول، ما أدى إلى كثير من الصراعات والردات، وخاصة في موضوع الإمامة
والولاية والميراث، والأعراف والتقاليد ذات الصلة، خاصة تلك التي كانت سائدة في
الجاهلية والتي تسرَّب بعضها إلى الحياة الاجتماعية الإسلامية، ما شكّل عقبات في
تطور الحياة الاجتماعية والسياسية، ومنها ما يتعلق بنصرة القريب، وموضوع ميراث
البنت، وموضوع مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي، وأعراف أخرى، مثل ظاهرة ختان
البنات في بعض المجتمعات الإسلامية...إلخ.
* التقليد/التقاليد
أما التقاليد التي قد تعتبر بعض نتاجات الأعراف، فهي أوسع وأشمل، وتطال مختلف جوانب
الحياة الاجتماعية وظواهرها، وهي ماثلة في الأفراح والأتراح والسياسة والاقتصاد.
والتقليد سُنَّة تاريخية تجري في كل عصر ومصر، وهو من فعل قلَّد يقلِّد تقليداً، أي
فعل مثل فلان أو الجماعة المعينة، وتشبَّه به وسار على منواله والتقليد حاضر في
شؤون الحياة الدنيا، وفي أمور الدين، أي في العبادات والمعاملات.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
(الأحزاب: 21). والتقاليد هي أفعال متراكمة بفعل الزمن والتجربة، بحيث تصبح
سلوكاً اجتماعياً عفوياً، بمعزل عن السؤال عن ظروف النَّشأة وحيثياتها، لذلك ينشأ
العديد من المشاكل بين الأجيال نتيجة لتقاليد قد لا تكون منسجمة مع طبيعة الظروف
والبيئة الاجتماعية الجديدة، أو ما يُسمَّى صراع أو تناقض الأجيال.
وقد ورد عن
الإمام علي عليه السلام: "لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير
زمانكم" (4). ولعل المقصود هو أن لا يُلْزَمَ الجيل اللاحق بممارسة نفس التقاليد
وبنفس العقلية التي كان يمارسها الجيل السابق، وذلك بسبب تغير ذهنية هذا الجيل في
العلاقة مع الموجودات والتطورات التي تجري عليها. "والسلوك إذا اتصف بأنه تقليدي
يُستَشَفّ من ذلك أنْ مزاولته دامت حِقَباً طويلة، وأنه محاكاة لسلوك القدامى
ومتوارث عنهم. وهذا المعنى مذكور في المعجم الوسيط إذ جاء أن التقاليد: "العادات
المتوارثة التي يقلد فيها الخلف السلف" (5). والأعراف والتقاليد، وإن كانت في
الأعمّ الأغلب من وضع وتجربة الإنسان، إلا أن هناك جزءاً مهماً منها منسجم مع
الفطرة الإنسانية، سوى ما منعه الدين وحرّمه. وقد كان هناك العديد من الأعراف
والتقاليد السائدة التي حرمها الإسلام، مثل وأد البنات والثأر والخمرة. والعادات
والأعراف والتقاليد إن هي إلا ممارسات اجتماعية قيمية وأخلاقية، فما انسجم مع قيم
الدِّين ثبَّته وحضَّ عليه، وما تناقض مع القيم الدِّينية حرَّمه وقاومه.
* خلاصة
لا يوجد مجتمع على وجه البسيطة خالٍ من الأعراف والتقاليد، لأنها جزء من ثقافة كل
شعب. وهذه الأعراف والتقاليد، إذا ما حُدِّثت مع الزمن، فإنها تنبت ظواهر اجتماعية
تحفظ المجتمع من الاختراقات الثقافية الوافدة، والتي تزرع الأوهام ويقطف بعض الشعوب
الخسران. وهذا ما حدث فعلاً مع بعض الشعوب (بل الأنظمة) العربية التي أرادت أن
تستورد بعض العادات والتقاليد الغربية، فلا هي نجحت في تقليد الغرب؛ لأن ثقافة
شعوبها متماسكة ببناءات تاريخية ودينية منسجمة مع تراثها ومعتقداتها، ولا هي
استطاعت من خلال تقاليدها الذَّاتية أن تقوم بعملية الحكم الصالح والتنمية
الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. مثلاً هذه الأنظمة أرادت أن تنخرط في ركب
العولمة الأميركية وهي تُفقر شعوبها ولا تهتم بالتعليم ولا بالصناعة ولا بالقيم
الذاتية الإسلامية التي تحثُّ على العلم. إنَّ العادات والتقاليد التي هي حياة
المجتمعات وحامية وجودها، قد تكون سبباً في ركودها وتهميشها.
(*) مدير معهد العلوم الاجتماعية / الجامعة اللبنانية
(1) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 175.
(2) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ابن خلكان، ج 1، ص 125.
(3) العادات والتقاليد في العهود الاقطاعية، علي الزين، ص 13 14.
(4) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، الحكم المنسوبة إلى أمير المؤمنين عليه
السلام، ص 267، ح 102.
(5) القيم والعادات الاجتماعية، فوزية دياب، ص 163.