ما من أمّةٍ أو شعبٍ في العالم المعاصر والقديم إلّا
وكانت له أعراف وتقاليد خاصّة به، وقد تتوافق جزئياً بين بعض الأمم والشعوب وقد
تختلف تبعاً لنظام كلّ شعبٍ وأمّة. وهذه الأعراف والتقاليد فرضتها سلوكيات الأمّم
والشعوب عبر التاريخ، والكثير منها لا زال متداولاً به حتّى يومنا هذا، سواء أكانت
الأمم والشعوب من الملتزمين بالأديان السماوية الثلاثة أم من غير الملتزمين بها،
لأن الأعراف والتقاليد تنبع من علاقات أفراد المجتمع الواحد بعضهم ببعض ممّا يتيح
إنتاج تلك الأعراف والتقاليد.
والمجتمع الإسلامي الكبير لا يشذّ عن هذه القاعدة،
فبالإضافة إلى الإسلام وهو الدين الّذي يؤمن به المسلمون، هناك أعراف وتقاليد
مختلفة عند كلّ شعبٍ مسلمٍ على امتداد رقعة وجود المسلمين في العالم، إلا أنّ
النقطة الأساس والمركزية في الحديث هي هل أن الإسلام له موقف مخالف للأعراف
والتقاليد بحيث لا يقيم لها وزناً أو أنّها عنده مورد قبول واحترام؛ لأن الشعوب
الإسلامية تلتزمها نهجاً ومساراً لها إلى جانب أحكام الإسلام الّتي تنظم حياتهم؟
هذه هي النقطة المحوريّة في هذا المجال. بداية نقول: إنّ الإسلام يحترم الشعوب بكلّ
ما فيها من أعراف وتقاليد، ولا يمنع من التعامل بها والاستناد إليها إذا كانت غير
مخالفة لأحكامه وقوانينه، لأن الإسلام كدين يريد أن يربط الناس بالله سبحانه؛
ليؤمنوا به وليعملوا بأحكامه ومفاهيمه، وهذا هو الأساس في تعامل الإسلام مع الشعوب
على اختلاف قومياتهم وأجناسهم ولغاتهم.
ومن هنا نقول: إنّ الإسلام يتعامل مع عادات
وتقاليد وأعراف الشعوب استناداً إلى قاعدة ثلاثيّة الأبعاد، بمعنى أن الأعراف
والتقاليد عند الشعوب يمكن أن نقسمها بلحاظ أحكامنا الإسلاميّة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: الّتي لا تخالف الإسلام نصَّاً وروحاً.
القسم الثاني: الّتي تخالف الإسلام نصَّاً وروحاً.
القسم الثالث: ما كان خليطاً ممّا يخالف الإسلام وممّا يوافقه.
أمّا القسم الأوّل فهو مقبول في ديننا
الإسلامي؛ لأنّه لا يخالف أحكام الإسلام وقوانينه، وينسجم نحواً ما مع الهدف الأسمى
للإسلام وهو ربط المسلم بربّه لعبادته، مثل الكرم والشجاعة والإلفة بين الناس،
ومساعدة الناس بعضهم بعضاً على فعل الخير. ولهذا نجد أنّ الإسلام أقرّ واعترف ببعض
الأعراف والتقاليد عند العرب قبل الإسلام، ومن أشهر ذلك "حلف الفضول" الذي يؤكد على
مساعدة المظلوم من أهل مكة وغيرها حتّى يسترجع حقه ممّن ظلمه، وقد ورد عن النبي
الأكرم صلى الله عليه وآله في حقّ هذا الحلف: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان
حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت..." (1).
أمّا القسم الثاني فهو مرفوض كليّاً؛ لأنّه
يتعارض بشكل صريح وواضح مع الإسلام نهجاً وفكراً وسلوكاً. وإذا أردنا أن نأخذ أمثلةً
عن هذا القسم فهناك الكثير، ولكن نقتصر على الخطر منها حتّى يتبين مدى خطورة هذا
القسم على العلاقة بين المسلمين ودينهم.
1ـ جرائم الشرف: وهي عبارة عن قتل الفتاة
الّتي يتهمها أهلها أو المجتمع بممارسة الفاحشة، بل لو هربت مع رجل تريد الزواج به،
فهنا العادات والأعراف تحكم بإباحة دمها وقتلها، مع أن ذلك غير جائز وهو فعل محرم،
وللأسف لا زلنا نجد في بعض مجتمعاتنا الإسلاميّة هذا النوع من الجرائم، وذلك بادعاء
أن هذا الفعل عار على العائلة أو العشيرة والقبيلة، ويجب غسل العار، وهو لا يُغسَل
إلّا بالقتل. وحكم الإسلام هنا واضح وهو قوله تعالى
﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلاَ بِالْحَقِّ﴾
(الأنعام: 15). فقتل إنسان ما في ديننا له أسباب واضحة ومحدَّدة، وأي خروج
عن تلك الأسباب هو مخالفة لأحكام الإسلام.
2ـ جرائم الثّأر: وهي عبارة عن قتل غير القاتل
من عائلةٍ أو عشيرةٍ أخرى، فمثلاً إذا قتل رجل ما شخصاً آخر، فتقوم عائلة المقتول
بقتل أي شخصٍ آخر من عائلة القاتل مع أنّه "لا ناقة له ولا جمل". وهذا ظلم لا
يقرُّه الإسلام، ولا يعترف به، وينهى عنه، باعتبار أن هذه العادة السيّئة تؤدّي إلى
شرذمة المجتمع وتمزيقه وإيجاد عداوات وأحقاد لا داعي لها، فضلاً عن إعاقتها لحركة
المجتمع السليمة المحققة للأهداف والأغراض المشروعة للناس، ولذا قال القرآن الكريم
﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
(الأنعام: 164)، وقال أيضاً
﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ
جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ
مَنْصُوراً﴾
(الإسراء: 33). فالإسلام أقرَّ في هذه الحالة بقتل القاتل لا غير دون غيره،
وأعطى ولي الدم الإذن في الاقتصاص، ولكن من القاتل نفسه دون غيره.
3ـ ميراث المرأة: إن الناس في الكثير من
مجتمعاتنا الإسلامية لا يتعاملون مع المرأة كما يتعاملون مع الرجل، فلو فرضنا أن
رجلاً قد مات وترك ميراثاً، فهنا نرى أن هذا الرجل قبل موته قد يوزِّع ثروته على
أولاده الذكور فقط، أو يطلب من الذكور أن يعطوا أخواتهم شيئاً ما مقابل حرمانهن من
ميراثهن الحقيقي، وهذا التقليد راجع إلى تفضيل الرجل على المرأة بشكل عام. ولا شكّ
أن هذا مخالف لأحكام الإسلام في الميراث الذي حدَّد لكل وريث حصته، وأعطى الذكر ضعف
حصة الأنثى نظراً لموقع كلّ واحد منهما في المجتمع، ولكن مع هذا نرى هضم حقّ المرأة
في التّركة لا زال معمولاً به في العديد من ساحاتنا الإسلاميّة، وذلك بحجة أن ميراث
المرأة إذا تزوجت من خارج إطار العائلة سوف يذهب للغرباء، وهذا ما يوافق عادة
جاهلية كانت موجودة.
وهذا الأمر لا ينسجم مع الإٍسلام، بل ويرفضه، إذ للمرأة الحق
في أن تأخذ حصّتها من الميراث كغيرها من الورثة، ولا يجوز حرمانها منه بحججٍ واهيةٍ
وساقطةٍ بنظر القانون الإسلامي. بل نجد أن تفضيل الذكر على الأنثى يعود حتى إلى
مرحلة الولادة، فإذا أنجبت المرأة بنتاً، نرى أن الأب في الكثير من الأحيان يكون
كارهاً ممتعضاً وغير راضٍ؛ لأنّه يريد أن تلد له ولداً. وكم من النساء قد طلَّقهنَّ
أزواجهنَّ لأنّهنَّ لا يلدن إلّا البنات؟ وهذا التقليد كان سارياً في الجاهلية قبل
الإسلام وحاربه ديننا، إلّا أنّه عاد وتسلّل إلى مجتمعاتنا عبر الأعراف والتقاليد.
وقد قال القرآن عن ذلك
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ
مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾
(النحل: 58 59). فوأد البنات الآن لم يعد له وجود، ولكنّ التمايز في
المعاملة لا زال موجوداً، حتّى أنّه في بعض الأعراف الموجودة الرجال لا يورِّثون
البنت أصلاً؛ لأنّه قانون العائلة أو العشيرة، ويقدّمون هذا العرف على حكم الله في
توريث المرأة.
وأمّا القسم الثالث، وهو المشتمل على ما يخالف
وما لا يخالف الإٍسلام، فالمقبول منه "ما لا يخالف" والمرفوض منه "ما يخالف"، وهذا
يعني أن هذا القسم ليس مقبولاً بالكامل ولا أنه مرفوض بالكامل. ومن أبرز أمثلته
انتصار العائلة أو العشيرة لفردٍ من أفرادها إذا تعرَّض لاعتداء من جانب فردٍ آخر
أو مجموعةٍ من عائلةٍ أو عشيرةٍ أخرى. فالمرفوض هنا هو نصرة المظلوم ضد ظالمه وغيره،
والمقبول هو نصرة المظلوم ضد ظالمه خاصة، وذلك عبر الطرق والأساليب المشروعة في
الإسلام، وليس على الطريقة العشائريّة والقبليّة الّتي تأخذ البريء بذنب المجرم.
وبالجملة، فإنّ القسم الثالث ممّا لا يخالف الإسلام يدخل في القسم الأوّل، وما
يخالف الإسلام يدخل في القسم الثاني، وليس له حكمٌ مستقل، بل تتبع أحكامه أحكام
القسمين الأوّلين.
* خاتمة
بناءً على ما تقدّم، نرى أن مجتمعاتنا الإسلاميّة لا زالت متأثِّرة كثيراً بالأعراف
والتقاليد، وهي عند بعضهم شريعة لهم، يتعاملون فيما بينهم على أساسها وليس على أساس
أحكام الإسلام. إنّ المسؤوليّة في هذا المجال تتحملها الأنظمة التي حكمت المسلمين
عبر العصور باسم الإسلام من دون أن تعمل على تطبيق الإسلام نصَّاً وروحاً، بحيث
نشأت عادات وتقاليد جديدة من واقع الحياة الاجتماعية وامتزجت بالإسلام حتّى صار
يُظنّ أنّ هذه الأعراف جزء من الدين الإسلامي وأحكامه وممارساته، مع أن الإسلام
منها براء ولا علاقة له بها على الإطلاق.
وهنا لا بد من القول: إنّ مهمة إرجاع
الأمور إلى نصابها وإلى الصراط السّوي الذي يجب أن يسير عليه المسلمون تقع على عاتق
كلّ مهتم بأمور المسلمين، بدءاً من العلماء والوعاظ والمثقفين، واستعمال كل وسائل
الإعلام من أجل توضيح الأعراف والتقاليد، وتبيان ما هو مخالف للإسلام والسعي إلى
منع العمل به، والترويج لما يوافق الإسلام والتشجيع عليه؛ لأنه رافد من روافد تقوية
الإسلام في النفوس. ولهذه المهمة الواجبة الملقاة على عاتق الغيورين على الإسلام،
ينبغي وضع الخطط والبرامج لها، خصوصاً في مجتمعاتنا التي لا زال يغلب عليها الطابع
العشائري الذي يمزج أعرافه وتقاليده مع الإسلام. ولهذا، فإنّ تحقيق الوعي الاجتماعي
وتبيان فوائد الأعراف والتقاليد غير المخالفة للإسلام، وتبيان المفاسد والمضار
والمساوئ للأعراف المخالفة للإسلام هو واجب، وينبغي السعي والعمل من أجله من دون
إبطاء أو تأخير حتّى لا يؤدّي ذلك إلى رسوخ الأعراف المخالفة عند الناس وتقديمها
على أحكام الإسلام.
(*) مدير مكتب الوكيل الشرعي في لبنان.
(1) البداية والنهاية، ابن كثير، ج2، ص355.