الشيخ إسماعيل إبراهيم حريري
ممّا لا شك فيه أنّ الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، لم يخلقه
الله تعالى ليعيش بعيداً عن بني جنسه، ولذلك نرى هذا الطبع يظهر جلياً عندما يندفع
هذا الإنسان إلى إقامة علاقات من أنواع مختلفة مع الآخرين. ومن هذه العلاقات،
العلاقات الاقتصادية، فهي تخضع لعقود وقيود يراعي كل طرف فيها مصلحته أو مصلحة
البلد الذي ينتمي إليه، هذا إذا كانت على مستوى الدول، أو مصلحته الخاصة، إذا كانت
بين الأفراد، حيث ينطلق من مبدأ الربح في التجارة أو الصناعة أو غير ذلك. ومنها
العلاقات السياسيّة، وهذه أيضاً لها قوانينها وأنظمتها التي تحكمها وفق نظرة كلّ من
الطرفين. ومنها العلاقات الاجتماعية، وهي المقصودة عند القول إنّ الإنسان كائن
اجتماعي بالطبع، فهو يشعر بالحاجة الماسّة إلى فرد من نفس نوعه يبثّه همّه، ويرافقه
في رحلة الحياة أو يقف إلى جانبه وقت الشدائد فيحسّ فيها بالراحة والطمأنينة. ونرى
بيان ذلك في قوله تعالى
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
(الحجرات، الآية: 13).
* الأسس الصحيحة للعلاقات الاجتماعيّة بين البشر:
قد نسأل عيّنة من الناس هذا السؤال: ما هو المعيار الصحيح للعلاقات الاجتماعية؟ وقد
نرى تعدّداً أو اختلافاً في الإجابات حسب نظرة المجيب وقناعاته في بناء هذه
العلاقات. ولا نستغرب لو وجدنا من ضمن الإجابات من يعتبر المعيار هو الاستفادات
الماديّة أو المعنويّة والوجاهية، فقد يُقال: إنّ ما يقرّبني من الأفراد ويبعدني
عنهم هو ما أستفيده منهم مالاً أو جاهاً أو شهرة. ولكن في المقابل، نرى في تلك
الإجابات نوعاً آخر من الفهم للعلاقات الإجتماعية ومعيارها الصحيح كمعيار
الإنسانيّة والأخوّة والصداقة وحب الآخرين وقضاء حوائجهم، فلا يقيم أحدهم علاقة
اجتماعيّة إلاّ على أساس من القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة ولا يكون قربه أو بعده عن
شخص إلاّ بهذا الاعتبار، وعلى هذا الأساس منطلقاً من قول أمير المؤمنين عليه السلام
في نهج البلاغة ضمن عهده لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر:
"فأشْعِرْ قلبك الرحمة
للرعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سَبُعاً ضارياً، تغتنم أكلهم،
فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق"(1). فالتعامل مع النّاس
يكون على أساس من اثنين: إمّا الأخوّة الدينيّة إن كان من أهل دينك، وإمّا الأخوّة
الإنسانيّة حيث هو مخلوق لله مثلك تماماً وإن اختلفت معه في الدين. ولا شك أنّ هذا
النحو من الأساس هو المعيار الصحيح دينيّاً وإنسانياً وأخلاقياً للعلاقات
الاجتماعية بين أفراد البشر جميعاً، وهذا الأساس الثابت الدائم لعدم ارتباطه بمصالح
آنيّة وأهواء شخصانيّة، بخلاف سابقه كما هو واضح.
* صور من التكافل الاجتماعي والعلاقة الإنسانيّة:
إذا أخذنا بمعيار الإنسانيّة والأخوّة كأساس لبناء العلاقات الاجتماعيّة، فإنّ هذا
يُترجم في حياة البشر قولاً وعملاً بصور عدّة أبرزها:
* أولاً: التكافل الماديّ:
فإنّ كثيراً من النّاس يقعون في ضيق المعاش وحرج المعيشة فيمدّ لهم أبناء جلدتهم يد
العون والتكافل والمساعدة بأشكال متعدّدة، منها:
1 - القرض اللاربوي، فإنّه معروف يفعله الإنسان لأخيه الإنسان ليسدّ حاجته ويرفع
شدّته، وقد ورد عن مولانا الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ
إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾
(النساء، الآية: 114)؛ قال: "يعني بالمعروف القرض"(2). ولشدّة تأكيده على
القرض والأجر فيه بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّ أجره أكبر من أجر الصدقة
فقال: "الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر..."(3).
2 - ضمان الدين، بأن يضمن الشخص دين غيره غير القادر على قضائه، ففي الخبر عن
الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
"من ضمن لأخيه حاجة لم ينظر الله عز وجلّ في حاجته حتى يقضيها"(4). وفي خبر آخر أنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله لم يصلِّ على جنازة حتى ضمن عليٌّ عليه السلام درهمين
كانا على صاحبها فقال له النبي صلى الله عليه وآله: "جزاك الله عن الإسلام خيراً،
وفكّ رهانك كما فككت رهان أخيك"(5).
3 – الصدقة، وأجرها عظيم، وقد تقدّم أنها بعشرة، وورد فيها أيضاً:
أ - أنّها تقضي الدين وتخلف البركة.
ب - تدفع ميتة السوء.
ج - تنفي الفقر وتزيد في العمر(6).
وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله كما روي عنه: "تصدّقوا فإنّ الصدقة تزيد
المال كثرة، فتصدّقوا رحمكم الله"(7).
4 - الهدّية، وقد ورد التأكيد عليها والحثّ على تبادلها فجاء الأمر بها بصيغة
المفاعلة، ففي الخبر عن أبي جعفر عليه السلام قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه
وآله يأكل الهديّة ولا يأكل الصدقة ويقول: تهادوا، فإنّ الهديّة تسلّ السخائم (أي
تنزع الأحقاد)، وتجلي ضغائن العداوة والأحقاد"(8). والهديّة تورث المحبّة وتزرعها
في قلوب المتهادين كما ورد عنه صلى الله عليه وآله
"تهادوا تحابوا"(9).
* ثانياً: إصلاح ذات البين:
قال تعالى:
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ
إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا
عَظِيمًا﴾(النساء،
الآية: 114). وقال تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(الحجرات،
الآية: 10). وفي وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لولديه الحسن والحسين
عليهما السلام قال: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم
أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإنّي سمعت جدّكما صلى الله عليه وآله يقول:
صلاح ذات
البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام"(10). والمقصود من صلاح ذات البين وإصلاحها هو
إصلاح العلاقة وإعادة وصل ما انقطع من أواصر القرابة والأخوّة والمودّة بعد تردّيها
لسبب أو لآخر، فالتكافل الاجتماعي وإنسانيّة العلاقات الاجتماعيّة فضلاً عن الأوامر
الإلهيّة تقضي جميعها بالسعي لحلّ مشاكل النّاس الماديّة وغير الماديّة. ومن هنا
نرى أن القيام بمصالحات بين العوائل التي اختلفت نتيجة حادث ما، هو من أهمّ موارد
إصلاح ذات البين، وقد يكون بل غالباً ما يكون لوجهاء العائلات ومشايخها وأعيان
المناطق والبلدات، ولكثير من علماء الدين أو جهات دينيّة، دورٌ فاعلٌ ومؤثر ومنتج
في إعادة اللُّحمة ووصل ما انقطع من أواصر المودّة وصلات القربى. فإذا قاموا بهذا
الدور حافظوا على العلاقات الاجتماعيّة وطوّروها نحو الأفضل.
ثالثاً: الوقوف إلى جانب المظلوم ونصرته لرفع الظلم
عنه:
فقد ورد في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لولديه الحسنين عليهما السلام: "...
وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً..."(11). وورد عنه عليه السلام: "من كفّارات
الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب"(12). ولا شكّ أنّ أواصر العلاقة
تتوطّد وتقوى إذا قام الأفراد جميعاً بالوقوف إلى جانب بعضهم البعض في مواضع الحقّ
والخير والصلاح.
وختاماً نقول: إنّ نجاح العلاقات الاجتماعيّة
وثباتها هو في ابتنائها على أسس سليمة ومعايير صحيحة لا تخضع للميول والأهواء،
والمصالح الشخصية الضيقة، بل تعتمد الإنسانية معياراً لها، فإذا ما اعترضت هذه
العلاقات شائبة خلاف يسهل حلّه بالرجوع إلى هذا الأساس الإنساني، ممّا يجعل كلّ فرد
يراعي في علاقاته حقوق الآخرين، ولا يتعدّى حدوده فيصفو العيش ويرغد. والحمد لله ربّ
العالمين.
(1) نهج البلاغة - شرح محمد عبده، ج3، ص 84.
(2) الوسائل، ج16، باب 11 من أبواب فعل المعروف، ح1.
(3) المصدر السابق، ح5.
(4) المصدر السابق، ج13، باب 2 من أبواب أحكام الضمان، ح3.
(5) المصدر السابق، باب 3، ح2.
(6) الوسائل، ج6، باب واحد من أبواب الصدقة، ح 1 و2 و4.
(7) المصدر السابق، ح8.
(8) الكافي، ج5، باب الهدية، ح 7.
(9) المصدر السابق، ح 14.
(10) نهج البلاغة - شرح محمد عبده ، ج3، ص 76.
(11) نهج البلاغة - شرح محمد عبده، ج3، ص 76.
(12) المصدر السابق، ج4، ص7.