تحقيق: نانسي عمر
لم يكن أهل بيئة المقاومة بحاجة إلى حرب قاسية لتظهر معادنهم، فهؤلاء الذين وصفهم سيّد المقاومة الشهيد الأقدس (رضوان الله عليه) بـ"أشرف وأطهر الناس"، كانوا مثالاً للتكافل والتعاضد في أصعب فترة مرّت على لبنان منذ أعوام، ألا وهي الحرب التي شنّها العدوّ الصهيونيّ في شهر أيلول/ سبتمبر من عام 2024م.
وكعادتهم، انطلق اللبنانيّون في مبادرات تطوّعيّة، فرديّة وجماعيّة، يداً بيد لتأمين احتياجات النازحين من مختلف المناطق اللبنانيّة، الذين غادر معظمهم قراهم وبيوتهم قسراً دون أن يأخذوا معهم أموالهم أو أيّاً من أغراضهم الشخصيّة، فكانت الوصيّة الأساس: "حفظ المقاومة وأهلها" أمانة في أعناق أبناء المقاومة، حتّى ولو كانوا هم أيضاً نازحين عن بيوتهم، فأثبتوا للعالم أجمع أنّ المقاومة لا تكون بالسلاح وحده، وأنّ التكافل طريق المؤمنين إلى النصر الإلهيّ.
* "وتعاونوا"... مواجهة وصمود
من إحدى كلمات الآية القرآنيّة الكريمة اختارت اسماً لها، فنشأت جمعيّة "وتعاونوا" كخليّة أزمة عام 2019م بسبب الظروف الصعبة في البلاد، والتي كانت تزداد صعوبة عاماً بعد عام، ويزداد معها عدد المحتاجين من الناس، في ظلّ غياب الدولة التي كانت تمرّ هي الأخرى بظروف عصيبة.
"نحن جزء من هذا المجتمع، ومن الواجب علينا أن نساند المجاهدين الذين يدافعون عنّا وعن أرضنا في جبهات القتال، من خلال مساندة الناس وتقديم الاحتياجات الأساسيّة لهم، وهو ما شجّعنا على الاستمرار في العمل خلال فترة الحرب التي كنّا نواجه فيها العالم بأسره"، يقول أبو الفضل شومان مدير الجمعيّة.
ويتابع: "دورنا خلال الحرب كان التصدّي لتأمين احتياجات النازحين، من تأمين المساكن الآمنة إلى الحصص الغذائيّة، وصولاً إلى التقديمات الماليّة، وكلّ ما يحتاجونه للاستمرار في الصمود في مختلف المناطق التي نزحوا إليها".
وبحسب شومان، فقد بلغ عدد العائلات المستفيدة خلال الحرب نحو 94 ألف عائلة قدّمت لها الجمعيّة مستلزمات مختلفة، من ثياب وحصص غذائيّة وأدوية وحليب للأطفال ووسائل تدفئة وما شاكل. وقد ساهم المتبرّعون في مساعدة الجمعيّة على تقديم المساعدة لهؤلاء. وتوزّعت الفرق على 8 مراكز في مختلف المناطق، تنوّعت ما بين مراكز توضيب ملابس، ومراكز توزيع أدوية، ومطابخ ميدانيّة.
* عطاء مستمرّ
ومع انتهاء الحرب لم تنته مبادرات الجمعيّة، فعدا عن عدد المستفيدين بشكل يوميّ من تقديمات المركز الرئيس والذي يقارب 250 عائلة، بادرت الجمعيّة إلى متابعة شؤون نحو 120 ألف نازح من سوريا إلى بعلبك- الهرمل، إذ تقدّم لهم حصصاً غذائيّة وأدوية وحفاضات وحليب ووسائل تدفئة ومختلف مستلزمات المعيشة. كما أطلقت الجمعيّة مبادرة "جنوب الليطانيّ" لمساعدة أهالي القرى في تلك المنطقة على تأمين احتياجاتهم المختلفة.
يرى شومان أنّ هدفه من الاستمرار في نشاط الجمعيّة هو إيصال رسالة للناس، مفادها أنّ المقاومة لا تحميهم فقط بل تساندهم وتؤمّن احتياجاتهم وتتحمّل مسؤوليّتها أمامهم من خلال متطوّعين من أبناء بيئة المقاومة يعملون لخدمتهم.
أمّا للعدوّ الذي هدّد الجمعيّة بقصف مركزها الرئيس في طريق المطار، فرسالة الجمعيّة كانت أنّها لا يمكن أن تتراجع عن أداء دورها أو تتخلّى عن شعب المقاومة مهما عظمت التضحيات. يقول شومان: "كلّ مبادرة تهدف إلى مساعدة أهالي بيئة المقاومة ورفع معنويّاتهم ومساعدتهم على الصمود هي هدف للعدوّ، لذلك، كنّا مع كلّ تهديد نتقدّم أكثر، وندخل إلى مناطق جديدة، ونساهم بشكل أوسع في خدمة أكبر عدد من المستفيدين، ليعرف العدوّ أنّنا كالمجاهدين المرابطين على الثغور، لا نخاف ولا نتراجع، وسنبقى مساندين لأهلنا وعوائل شهدائنا وجرحانا وكلّ أبناء بيئة المقاومة الشرفاء".
* كالجسد الواحد
حسن سويدان، اسم كثر تداوله على وسائل التواصل خلال فترة الحرب، بسبب المبادرة الفرديّة التي قام بها الشابّ -ابن الضاحيةكما يعرّف عن نفسه- لمساعدة النازحين من أبناء بلده.
"نقطة ضعفي هي الأطفال، لذلك، عندما نزح الناس في 23 أيلول من البلدات الجنوبيّة وبقوا على الطرقات لساعات طويلة، وبدأنا نسمع مناشداتهم لتأمين مياه للشرب لأطفالهم، لم أستطع أن أقف مكاني دون أن أقدّم أيّ شيء. فقرّرت أن أقوم بمبادرة فرديّة بالتوجّه إلى الطرقات المزدحمة بسيّارات النازحين وتوزيع المياه عليهم"، يقول حسن.
يتابع: "النازحون هم أهلي، وكلّ طفل بينهم كان كابن أخي، فلم أستطع أن أغضّ الطرف عن سماع مناشداتهم في تلك الفترة". ويضيف: "بفضل الله، لاقت دعوتي عبر وسائل التواصل تفاعلاً كبيراً، حتّى أنّ عدداً من الشباب شاركوا معي في توزيع المياه عبر درّاجاتهم الناريّة".
* متبادلة
هذه المبادرة تطوّرت بعد إعلان الحرب بشكل رسميّ على لبنان في 27 أيلول، بحيث ازداد عدد النازحين بشكل كبير من الجنوب والبقاع والضاحية، وازدادت مع النزوح متطلّبات الناس واحتياجاتهم، وخاصّة من فرش وأغطية ووسائد النوم التي ارتفعت أسعارها وقلّ وجودها في الأسواق بفعل الطلب الكثيف عليها.
من هنا، سخّر حسن نفسه وصفحته على فايسبوك وهاتفه الشخصيّ لخدمة النازحين وتأمين مستلزمات النوم من معامل مختصّة بتصنيعها في طرابلس، ومن ثمّ تأمين الثياب للأطفال وكبار السنّ والمحجّبات بشكل أساسيّ، وتسليمها للنازحين يوميّاً في مراكز الإيواء والبيوت التي نزحوا إليها.
كان لافتاً تفاعل عدد كبير من الناس على فايسبوك مع منشورات سويدان، فقد حظي بثقة المتابعين منذ بداية مبادراته التطوّعيّة، لأنّه تميّز بأسلوبه المرح في منشوراته، سواء التي يطلب فيها التبرّعات للنازحين، أو التي يعرض فيها الثياب، أو قيمة المبالغ التي يحوّلها الناس إليه انطلاقاً من ثقتهم فيه وإعجابهم بنخوته وشهامته، وهو ما برز جليّاً في تعليقاتهم على منشوراته.
* عندما يكون الخير لباساً
مشروع "لباس الخير" من المبادرات التطوّعيّة الفرديّة التي أطلقتها ناهد كوراني منذ سنوات عدّة، في مركز جهّزته مع فريق صغير لتوضيب الثياب وإعادة توزيعها على العوائل المتعفّفة، أو بيعها بأثمان زهيدة لتقديمها على شكل مساعدات نقديّة أو عينيّة، إضافة الى تقديم حصص غذائيّة ومستلزمات طبيّة، وإقامة مضيف في مختلف المناسبات لتوزيع الطعام والحلويات على العوائل.
لكنّ ظروف الحرب القاسية لم تثنِ كوراني وفريقها المتطوّع عن الاستمرار في عملهم تحت القصف والتهديدات الإسرائيليّة المتتالية لمختلف المناطق، حيث تابعوا تقديم المساعدات للصامدين في بيوتهم والنازحين عنها إلى مراكز الإيواء المختلفة، من الحصص الغذائيّة إلى وسائل التدفئة والملابس والمسلتزمات الطبيّة، وصولاً إلى المبالغ النقديّة، فحملت جولاتهم الكثير من القصص والذكريات.
تقول محمداني:"من أصعب المواقف التي لا يمكن أن أنساها عندما كنّا في أحد مراكز الإيواء نقيم نشاطاً للأطفال، هي عندما تقدّمت إليّ طفلة صغيرة وهمست في أذني: (هل حقّاً استشهد السيّد؟)"، وتضيف: "لم أعرف بم أجيبها وهي طفلة متعلّقة بقائد تربّت على صورته وصوته ولم تصدّق بعد فكرة رحيله، وكلّما تذكّرت ذلك المشهد تدمع عيناي، فقد ترك فينا هذا القائد أثراً طيّباً لن ينساه حتّى أطفالنا، بل سيكبرون على وصاياه وخطاباته، وسيأخذون بثأره إن شاء الله تعالى".
وتؤكّد كوراني أنّ التوفيق الإلهيّ كان مرافقاً لعملهم طيلة فترة الحرب، فالمبالغ الماليّة والتبرّعات العينيّة التي كانت تصل من المتبرّعين كانت مدهشة، "وبتبيّض الوجه". تقول: "إحدى النساء، وهي نازحة خارج البلاد، اتّصلت بي وأرشدتني إلى المكان الذي وضعت فيه مفتاح بيتها، وطلبت منّي أن أدخل إلى البيت وآخذ ثياباً وأغطية النوم وحتّى قارورة الغاز لأعطيها لعائلة نازحة". وتتابع: "أكثر ما كان يدهشني هو الإيثار الذي يتميّز به مجتمعنا، فمثلاً: عندما كنت أريد أن أقدّم مدفأة لأفراد عائلة معيّنة، كانوا يقولون لي: اذهبي إلى عائلة أخرى فيها أطفال صغار فهم أحقّ بها".
* مشاهد عزّة النفوس
مشاهد الصبر والتضحية هي نفسها بين النازحين سواء في المنازل أو المدارس أو مراكز الإيواء، معلى الرغم ممّا كانوا يعانونه من جوع وبرد في أول أيّام الحرب، إضافة إلى خبر شهادة السيّد نصر الله (رضوان الله عليه)، إلّا أنّنا عندما كنّا نسألهم عن احتياجاتهم كنّا نخجل منهم، يخجلك ذاك الرجل السبعينيّ عندما قال: "عندي كلّ شيء، ابحثوا عمّن يحتاج إلى مساعدة أكثر منّي"، في حين ينام على البلاط مع اثني عشر فرداً من عائلته في منطقة جبليّة! وعندما أصررنا عليه أن يأخذ الفرش والأغطية، قال لنا: "إذا كان ثمّة من يحتاجها أكثر منّي وأنا حرمته منها، فبمَ أجيب الله؟ نحن أقوياء نحتمل البرد، ربّما غيرنا معهم أطفال". وفي مكان آخر سيّدة معها أطفال صغار، طلبت أن تأخذ غطاء واحداً لتتدثرّ به مع أطفالها خوفاً من عدم توفّر أغطية كافية لبقيّة النازحين.
مشاهد الرحمة هذه تجلّت أيضاً عند عائلات مؤلّفة من نساء وأطفال كانت ترفض تسلّم ما يزيد عن حاجتها وتردّ الفائض إلينا لتوزيعه على الباقين.
ومن القصص الجميلة أيضاً، جدّةٌ بكت عندما تسلّمت جهاز التدفئة وشعرت بالدفء، فتذكّرت المقاومين قائلة بلهجتها القرويّة: "ريتهن يقبروني الشباب"، هم يدافعون عنّا تحت البرد ونحن هنا نشتكي تحت سقف منزل دافئ، وننتظر النصر منهم؟!"، بينما طلب منّا حفيدها أن نرسل ما تبقّى إلى المقاومين في الجبهات.
هذه النماذج هي جزء من مجتمع مقاوم متماسك لا يعرف الذلّ أو الهوان حتّى في أصعب الظروف، ليبقى التكافل عنوانهم في الملمّات وطريقهم إلى تحقيق النصر جنباً إلى جنب أبنائهم وإخوانهم في الجبهات، ويثبتوا كعادتهم أنّهم بحقّ -كما قال سيّدهم- "أشرف وأطهر الناس".