د. طلال عتريسي
تزايد الحديث منذ سنوات عن أهميَّة المؤسسات غير الحكومية.
والمقصود بتلك الأهميَّة هو النشاط التطوّعي الذي يقوم به في إطار تلك المؤسسات،
مجموعة من الأفراد أو المنظَّمات في المجالات البيئية والاجتماعية والثقافية وغيرها
لخدمة المجتمع. ويقوم هؤلاء بهذا النشاط بشكل مستقل عن المؤسسات الحكوميّة الرسميّة.
ويعتبر كثيرون من مشجِّعي هذا الاتّجاه في العمل التطوّعي أنّ المؤسسات الرسمية
كانت على الدوام مقصِّرة بحق مواطنيها، وأنَّ الفساد كان يمنع في حالات عدَّة تلك
الخدمة من العبور بسلامة إلى من يستحقها. ولذا استنتج الدَّاعون إلى تنشيط المجتمع
المدني أنّه البديل عن تقصير الدولة في الخدمات التي يُفترض أن تقدّمها. كما رأى
آخرون أنّ العمل التطوّعي هو حجّة على الدولة التي يُفترض أن تقوم هي بكل الأنشطة
التي يحتاج إليها الناس الذين يعيشون على أرض محدَّدة وفي وطن معيَّن وتحت ظل دولة
ينتمون إليها.
* من أهم العبادات
ورد في الحديث الشريف "مَن لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"(1) و"ما
آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان وجاره جائع"(2) من دون أن يشترط هذان
الحديثان انتماء الإنسان إلى جمعية أو إلى مؤسسة لمساعدة هذا الجار. ويقول الإمام
الخميني قدس سره في المجال نفسه "إنّ خدمة الناس هي من
أهم العبادات". أي إنّ الإمام جعل هذه الخدمة بأي شكل حصلت فيه من خلال العمل
التطوعي أو العمل الرسمي من أهم العبادات التي يستحق عليها الإنسان الأجر والثواب.
تختلف النظرة الدينية عن غيرها من الرؤى إلى العمل التطوّعي. ففي حين تربط الدعوات
إلى العمل التطوّعي هذه الخدمة بتعويض التقصير في العمل الحكومي، أو بتفعيل النشاط
الاجتماعي، أو بالمساعدة على تنظيم المجتمع -وهي كلها أمور مهمّة وضروريّة- إلا أنَّ
النظرة الدينيّة الإسلاميّة للعمل التطوعي لا تحقِّق خدمة الناس فقط، ولا تلبي ما
ترنو إليه أهداف المجتمع المدني أيضاً بل تعتبر أنَّ هذا العمل يحقِّق للإنسان نفسه
الأجر والثواب وهو بمثابة أهمّ درجات العبادة التي تقرِّبه من الله سبحانه وتعالى.
أي أنّ الإنسان الذي يقوم بخدمة الآخرين إنّما يخدم نفسه أيضاً في حساب الدنيا
والآخرة الذي هو جوهر الوجود ومعناه في المنظور الإسلامي. في مقابل ذلك تنتشر ثقافة
الاتِّكال على المؤسسة الحكومية. وهذه الثقافة هي نتاج نحو نصف قرن من المنافسة بين
النموذج الشرقي السوفياتي والنموذج الغربي الرأسمالي الأميركي-الأوروبي. فقد حاولت
هذه الدول أن تقدِّم أقصى ما تستطيع لمواطنيها لتبرهن أنَّ نموذجها العقائدي
والسياسي هو الأفضل. وهو ما أُطلق عليه دولة الرعاية. ومنذ ذلك الوقت تزايد اعتماد
الناس على الخدمات الحكومية التي قدَّمت خدمات مهمة في مجالات الطب والتعليم
والمساعدات المختلفة. لكن هذا الهدف تراجع في العقدين الأخيرين. وبدأت الدعوات إلى
تقليص دور الدولة في خدمة الناس، والى أن يتحمَّل هؤلاء مباشرة ثمن الحاجات التي
يحصلون عليها. ولمَّا كان من الصعب على جميع الأوساط الاجتماعية -وخصوصاً الفقيرة
والمتوسطة تحمُّل هذا العبء- باتت الحاجة أكثر إلحاحاً للتطوّع لخدمة الناس في
المجالات المختلفة ولمنع الانفجارات الاجتماعيّة التي قد تحصل بسبب الفقر وغياب
الخدمات الضرورية.
* سبب نشوء الجمعيات التطوّعية
وفي المجتمعات العربيّة ومن بينها المجتمع اللبناني لا تبدو الخدمات الرسميّة
بالمستوى اللائق أو إنّها غائبة أصلاً. وحاجة الناس إلى هذه الخدمات حاجة مزمنة.
وأهم نقد يوجه إلى كل الحكومات العربية أنّها إمّا فشلت في عملية التنمية وإمّا
أنّها لم تحقِّق التنمية المتوازنة بين المناطق والسكان. والتنمية المقصودة هنا هي
كلُّ أنواع الخدمات وكل أنواع الحاجات من الطبابة إلى التعليم إلى البنى التحتية.
ويكفي أن ننظر من حولنا في لبنان حتى نكتشف بسهولة هذا التفاوت التاريخي التنمويّ
المزمن بين المناطق. فهنا منطقة تنقصها المياه الصالحة للشرب، وهناك من يفتقد
المدرسة، إلى من يفتقد المستشفى وخدمات الطبابة، وسوى ذلك مما نسمع الشكوى اليومية
منه منذ عقود إلى اليوم. هكذا نشأت الجمعيات الأهلية التطوّعية في المجالات الصحية
والتعليمية والبيئية والاجتماعية وسواها التي أرادت تعويض النقص الذي لم تملأه
الدولة لتلبية حاجات الناس حتى الضرورية منها. لكن في مقابل هذه الرغبة في تقديم
الخدمة إلى الناس، نما وللأسف اتِّجاه آخر شديد القوة هو اتجاه المنفعة المباشرة،
الذي لا يبحث سوى عن جني المال. وهو نقيض التطوّع، ونقيض الخدمة المجانية. وهو
بالمنظور الديني نقيض ما يقوم به الإنسان لوجه الله، أو لتحصيل الأجر والثواب الذي
حضَّ عليه الإسلام خصوصاً والدين عموماً. ومع هذا التحريض على المنفعة الذي يهيمن
على الثقافة التي تتوجّه إلينا عبر وسائل الإعلام وعبر القيم التجارية والاستهلاكية،
تصبح تنمية وتشجيع ثقافة التطوّع المضادة حاجة ضرورية من جهة وأكثر صعوبة من جهة
ثانية، لأنَّ نشر هذه الثقافة سيصطدم بجدار صلب من التحريض المعاكس الذي يتغذَّى من
ميول الإنسان ورغباته وأنانيته... لذا لا بدَّ من رؤية شاملة لتنمية هذه الثقافة
تشترك فيها مؤسسات كثيرة فتتكامل في ما بينها وتتعاون لتصل إلى الهدف الذي يجعل
التطوع ضرورة اجتماعية، وتسامياً فردياً.
* أهمية ممارسة العمل التطوعي
ما هو التطوّع؟ التطوّع هو فكرة، وهو بيئة، وهو سلوك. وليس بالضرورة أن يتم الأمر
بالتدرج من الفكرة إلى السلوك أو إلى البيئة. فقد تشجع البيئة التي يحصل فيها
التطوّع على خلق الفكرة في وسط الشباب أو الشابات أو حتى الأطفال في حين أنَّ غياب
الممارسة لن يؤدِّي إلى جعل الفكرة قابلة للتحقّق. لذا لا يمكن أن نفصل بين هذه
المستويات الثلاثة. وفي هذا المجال تلعب الأسرة دوراً أساسياً، سواء من خلال عمل
أحد الأبوين، أو كليهما، التطوّعي في هيئات عدة صحية أو اجتماعية... ومثل هذا العمل
يقدِّم نموذجاً لباقي أفراد العائلة فيقتدوا به حتى قبل أن تتضح أهمية التطوّع
النظرية, لأن مثل هذه الأهمية سيكتشفها المتطوِّع الشاب أثناء الممارسة العملية
فيلاحظ استجابة الناس وتحسُّن أحوالهم بعد تلبية حاجاتهم.
* أهمية دور المحيط في تشجيع العمل التطوّعي
في المدرسة يمكن تشجيع التلاميذ على مثل ذلك أيضاً، فندعوهم إلى المشاركة في أنشطة
بيئية أو كشفية لخدمة الناس مثل تنظيف الطرقات أو المساعدة في القطاف أو تعليم
الأطفال في مواسم الامتحانات، أو مساعدة رفاقهم الأضعف منهم دراسياً" في الصف...
وعلى وسائل الإعلام في هذا العصر أن تقدِّم بدورها برامج التوعية والنماذج المختلفة
التي تؤكِّد على فكرة التطوّع وأهميتها، وأن تبيِّن كيف يتغيَّر واقع الناس إذا
حصلوا على ما يحتاجون إليه، وأن تتحدَّث عن أهميَّة المبادرة إلى مساعدة الناس
أخلاقياً ودينياً واجتماعياً... وفي الأحياء والمساجد ينبغي ليس فقط الحض على
البُعد الديني للتطوّع من خلال الآيات أو الأحاديث الشريفة بل لا بد من استكمال ذلك
أيضاً بتشكيل مجموعات من أعمار مختلفة لتقوم بأعمال تطوّعية في مجالات عدَّة. ويمكن
للبلديات أن تساهم كثيراً في تشجيع ثقافة التطوع، وعليها أن تتعاون مع المدارس، ومع
الهيئات المختلفة لتسهيل عمل المتطوعين في المجالات البيئية أو الصحية أو
الاجتماعية...
* كيف نكتسب ثقافة التطوّع؟
إنَّ التطوّع في المحصلة هو ثقافة، ينتمي إليها الإنسان في بيئة معينة، فيجد نفسه
مندفعاً إلى مساعدة الناس في أوقات الشدّة أو في أوقات الحروب والأزمات، انسجاماً
مع ما يقوم به الآخرون. ويمكن أن نتأكَّد من ذلك في أثناء الحروب التي واجهناها في
لبنان وكيف اندفع الكثيرون إلى تقديم يد العون إلى النازحين بعدما تحوّل الأمر إلى
بيئة عامة بحيث شعر من لم يشارك في هذا العمل التطوّعي بأنّه مقصِّر أو بأنَّه غير
قادر على البقاء في بيته في الوقت الذي يتطوع فيه الآخرون للمساعدة... لذا يمكن
القول إنَّ ثقافة التطوّع تحتاج لكي نكتسبها إلى تشجيع المبادرة والى تعاون
المؤسسات المختلفة، وقبل ذلك وفي أثنائه وبعده إلى تعزيز الأفكار الدينية
والأخلاقية التي تشجع على التطوع بحيث يشعر المتطوِّع بأن عمله هو من أهم الأعمال
العباديَّة أو من أهم الأعمال الأخلاقيَّة أو الاجتماعيَّة.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص164
(2) بحار الأنوار، ج75، ص273.