إعداد: فاطمة خشاب درويش
قد يتصور بعضهم أعزائي القراء أن العمل دون مقابل هو من
الأمور الصعبة بل المستحيلة هذه الأيام خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي
نعيشها من جهة وسيطرة منطق المادة والفائدة على تعاملنا مع الآخرين. فالعمل بات
مقروناً بالبدل المادي، والخدمة التي تقدم لها كلفة وحساب. هذه المعادلة لا تبدو
غريبة في عصر ما يسمى بالعولمة التي تحاول تجريد الإنسان من كل مكوّناته الإنسانية
والفكرية والثقافية بغية جعله رقماً أو أداة تؤدي عملاً وتتقاضى المال. وفي موازاة
هذا الطرح تبرز جهود جبارة لحماية الإنسان والمجتمع تقوم بها مؤسسات خيرية اجتماعية
تسعى إلى ترسيخ مبدأ التعاون والتعاضد بين أبناء المجتمع الواحد عبر توسيع دائرة
العمل التطوعي الذي يعتبر من أسمى القيم الإنسانية والإسلامية. في هذا التحقيق
نستعرض مفهوم التطوع وأهميته وانعكاساته على الصعيد الفردي والمجتمعي كما نعرض لعدد
من التجارب المتنوعة في العمل التطوعي التي اختلفت في الشكل وتلاقت بمضمونها في
ميدان خدمة المجتمع والإنسان.
* مفهوم التطوع وتطوره تاريخياً
يوضح د. غسان طه أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية أن فكرة التطوع كانت
موجودة منذ القدم في المجتمعات البشرية ولكن بدون تسمية معينة. ويلفت د. طه إلى أن
ما نعرفه اليوم من أشكال التطوع هو نتاج تطور تاريخي. فالإنسان من الناحية
الاجتماعية لا يستطيع أن يعيش في مواجهة التهديدات الحياتية إلا من خلال عمله لصالح
الجماعة لأن الانتماء للجماعة يعطي الراحة للإنسان، وبقاء الجماعة يتحقق من خلال
خدمتها طوعاً، معتبراً أن مفهوم التطوع تراجع نتيجة تطور الفكر الإنساني بنظرته
للقضايا التي تحكمها المنفعة والبدل المادي.
* الإسلام والتطوع
يؤكد د.غسان طه على أن التطوع هو عمل جبار وضخم له قيمة كبيرة في الموازين الإلهية
مشيراً إلى أن منطلقات العمل التطوعي من إيثار وتفانٍ وتضحية في سبيل خدمة الآخرين
هي بالأساس منطلقات قرآنية تنبع من صلب التعاليم الإسلامية السامية التي تحث الفرد
على السعي في خدمة الإنسان وقضاء حوائجه، وهذا ما أكدت عليه الآيات القرآنية
والأحاديث النبوية ووصايا الأئمة عليهم السلام. ويتابع مشيراً إلى أن التطوع هو
تطبيق عملي لما أوصى به أهل البيت عليهم السلام وهذا ما أكدته الآية المباركة
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾
(الإنسان:8) التي تمثل برنامج عملياً لكل إنسان يرغب في القربى من الله عز
وجل وتحصيل رضاه.
* تطوير للمهارات وازدياد في الخبرة
تتحدث حنان ترمس الطالبة الجامعية باعتزاز عن تجربتها في العمل التطوعي في الهيئة
الصحية الإسلامية التي دخلت عامها الرابع. فهي تعرفت إلى هذا العمل من خلال إحدى
صديقاتها التي اصطحبتها إلى المشاركة في حملة تلقيح مجانية قامت بها الهيئة الصحية
بعد حرب تموز 2006. ومنذ ذلك الحين شعرت حنان برغبة بالانضمام إلى فريق المتطوعين
في الهيئة. وتتابع حنان بالإشارة إلى أن التطوع أتاح لها فرصة تطوير مهاراتها
وخبرتها خاصة في مجال اختصاصها (التمريض) فهي اكتسبت الكثير من خلال دورات
الإسعافات الأولية وتعلمت أن تعطي دون التفكير بالمقابل المادي.
* التطوع فريضة يومية
أكثر من ثلاثين عاماً هو عمر تجربة الحاجة أم محمد ضويني في مجال العمل التطوعي
الخيري. فهي بدأت رحلة العطاء عام 1978 إبان الاجتياح الإسرائيلي وعملت على تقديم
المساعدة للمهجرين في منطقة الشياح من خلال عدد من المؤسسات والجمعيات الخيرية. وفي
عام 1988 انضمت إلى فريق المتطوعين في لجنة إمداد الإمام الخميني في لبنان، هذه
الجمعية التي تقدم الخدمة للإنسان في مختلف المجالات. وحول حصيلة التجربة على
الصعيد الشخصي تصف الحاجة أم محمد التجربة بالخلاقة والمميزة، فقد بات التطوع جزءاً
من حياتها لا تستطيع الاستغناء عنه. فالتطوع بات كالفريضة لا يمكن تركه أو حتى
التفكير بذلك. وتؤكد الحاجة ضويني على أن معاناة الناس جعلتها تتعلم الصبر والزهد
في هذه الدنيا مشددة على أهمية التجربة لما لها من أثر في حياة الإنسان وطريقة
تعاطيه وتفكيره في هذه الحياة.
* أشعر بالمسؤولية حيال المقاومة
مثال آخر على العمل التطوعي هو تجربة الحاجة أم حسن مبارك التطوعية في قسم العلاقات
العامة في هيئة دعم المقاومة الإسلامية. فهي بدأت رحلتها في خدمة المجاهدين عام
1996 من خلال تجهيز وتوضيب الطعام لهم. وبعد ما يقارب 14 عاماً في هيئة دعم
المقاومة تشعر أم حسن بالمسؤولية حيال المقاومة التي تحمينا. وهي اليوم كما غيرها
من الأمهات والأخوات في هيئة دعم المقاومة تقدم وقتها وكل ما بوسعها لهذه المسيرة
الرائدة التي تعطينا العزة والكرامة. وتتابع الحاجة أم حسن بالتأكيد على أن تطوعها
لا يؤثر سلباً في حياتها الأسرية فأولادها يشعرون بالفخر والاعتزاز لكونها تعمل تحت
شعار دعم المقاومة. وتختم بالقول "من خلال تطوعي في هيئة دعم المقاومة أساعد كما
غيري من الأخوات المتطوعات في خدمة المجتمع وفي مسيرة يباركها الله سبحانه وتعالى
نمهد من خلالها لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وهذا التمهيد يتطلب
بالتأكيد العمل والجهد وتقديم الغالي والنفيس". وفي هذا الإطار توضح مسؤولة القسم
السيدة غزوة الخنسا وهي متطوعة أيضاً أن قسم العلاقات العامة هو قسم يقوم على
التطوع ومن أولى مهماته ربط المجتمع اللبناني بالمقاومة من خلال شبكة علاقات واسعة
مع مختلف الطوائف والمذاهب وذلك من خلال أنشطة متعددة كالزيارات والإفطار السنوي
والمعارض الفنية والرحلات الجهادية مشيرة إلى أن الأخوات المتطوعات في هيئة دعم
المقاومة يعتبرن أنفسهن في خط الدفاع الاجتماعي عن المقاومة.
* الانضباط وروح العطاء
بدأت فاطمة إبراهيم رحلتها في كشافة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في
الخامسة من العمر. وهي الآن متطوعة في قسم الإعلام في كشافة الإمام المهدي عجل الله
تعالى فرجه الشريف التي تنظم الكثير من النشاطات والبرامج التي تهدف إلى صناعة
الإنسان المعطاء والمتوازن والملتزم أخلاقياً وإنسانياً وإسلامياً. فتجربة التطوع
في قسم الإعلام أعطت فاطمة فرصة تحقيق طموحها وإثبات ذاتها وهي خريجة كلية الإعلام
فوجدت نفسها وزادت خبراتها في المجالين الإعلامي والتطوعي. وتختم فاطمة بالقول إن
العنصر الشاب هو الذي يملك الطاقة ولديه القدرة على العطاء وسيُسأل الإنسان عن وقته
فيما أمضاه فالشاب يستطيع أن يمضي وقته في مرضاة الله وفي نفس الوقت يكتسب المعارف
والخبرات وينمي شخصيته ويصقلها كل ذلك ببركة خدمة الإنسان والمجتمع.
* تعلمت المهنة التي حلمت بها
تجربة عيسى حسين الحسن الذي عاش في بلاد الغربة على مدى عشرين عاماً بدأت في حرب
تموز 2006 عندما كان يمضي وعائلته الإجازة السنوية في لبنان إلا أن اندلاع الحرب
أنهى رحلة الاغتراب الطويلة وبدأ بعدها تجربة التطوع من خلال توزيع المؤونة على
المهجرين والسهر على راحتهم. وبعد انتهاء الحرب لبى نداء الأمين العام لحزب الله
ونزل إلى الضاحية وساهم في رفع الركام وتنظيف الشوارع. تواصل بعدها عيسى مع جمعية
جهاد البناء وانضم إلى فريق المتطوعين فيها. عيسى تطوع في القسم الإعلامي في
الجمعية وهو لطالما حلم بأن يكون مصوراً منذ الصغر يحمل الكاميرا يلتقط الصور ويؤرخ
الأحداث إلا أن الظروف لم تسمح بذلك غير أن تجربته التطوعية أتاحت له تعلم هذه
المهنة ومن ثم احترفها على الرغم من أن الهدف الأساس كان التطوع لخدمة الناس إلا أن
الله أكرمه بمهنة لطالما حلم بها.
* المرأة قادرة على تحريك المجتمع
أكثر من خمسة عشر عاماً أمضتها سميرة ناصر الدين في العمل التطوعي وهي الآن متطوعة
في الهيئات النسائية في حزب الله وتعمل على مد جسور المودة والتكافل بين المعوزين
والميسورين إلى جانب نشر الثقافة الإسلامية الأصيلة والقيم والمبادئ الإلهية
والقرآنية كما تعطي أولوية لتمتين أواصر العلاقات الاجتماعية في المجتمع من خلال
لجان الأحياء كما تهتم بالجانب التربوي والثقافي. سميرة تؤكد أن تجربتها أعطتها
الكثير من الناحية النفسية والاجتماعية. فمن خلال الاحتكاك بالمسنين والعوائل
المستضعفة وعوائل الشهداء والأسرى وتقديم المساعدات الاجتماعية والمادية والصحية
لهم يشعر الإنسان بوجوده وأهميته فلا يكون وجوده عبثاً في هذه الحياة.
* ثمار التطوع
وبعد استعراض هذه التجارب يمكن حصر ثمار التطوع بالنقاط التالية:
- التطوع يسير بالإنسان تكاملياً نحو إنسانيته فيتجاوز الأنا وتسمو روحه.
- التطوع يقوي مشاعر التعاون والتضامن بين مكونات المجتمع الواحد ويساهم في استقامة
المجتمع والأفراد.
- يساهم العمل التطوعي بنتائجه في إشعار الناس المحتاجة والمنكوبة بأن هناك حاضناً
منهم يحضنهم ويقف إلى جانبهم ويعمل على التخفيف عنهم.
- العمل التطوعي يحصننا في مواجهة العولمة التي تسعى إلى تجريدنا من ثقافتنا وديننا
وتراثنا بهدف جعلنا أناساً تائهين في هذا الوجود.
* فرصة للتكامل الإنساني
يعتبر د. غسان طه أن المؤسسات التطوعية تتيح فرصة التكامل للإنسان. فالإنسان عندما
يقدم خدمة لأخيه الإنسان يشعر بسعادة وراحة لا يمكن وصفها مشيراً إلى أن مؤسسات
المجتمع المدني التطوعية نشطت بسبب غياب الدولة وتقصيرها في المجال الاجتماعي
الخدماتي. ويتابع موصياً بضرورة مأسسة العمل التطوعي وتنظيمه وإدارته من أجل تطويره
والرقي به وبالمجتمع. فعلى الدولة أن تشجع هذا العمل وتعمل على تنشيطه وتفعيله من
خلال الوزارات المعنية وتحديداً وزارة الشؤون الاجتماعية المعنية الأساس بخدمة
الإنسان والمجتمع. وفي ختام التحقيق دعوة لكل إنسان يرغب بفعل الخير لا سيما الشباب
إلى خوض تجربة التطوع من أجل حصد ثمارها الغنية بالفائدة والخير للإنسان والمجتمع.