يعزو الكثير من الآباء والأمهات تراجع سلوك أولادهم إلى
أقران السوء الذين يعاشرونهم. فهل يتماهى، فعلاً، بعض الأولاد في سلوك أقرانهم
السيئة؟ ومن المسؤول عن هذا التأثير السلبي؟ الولد نفسه؟ أم قرين السوء؟ أم ذووه؟
أم المجتمع؟ سوف نتناول في هذه المقالة الأثر التربوي للقدوة السيئة في النفس
الإنسانية من وجهة علمية ودينية، متطرقين إلى النقاط التالية:
- دور القدوة السيئة في توجيه الناس إلى المفاسد.
- عناصر الجذب في القدوة السيئة.
- أسباب وقوع الخطأ في تحديد القدوة.
- دور المجتمع في القضاء على نماذج القدوة السيئة.
* أولاً: دور القدوة السيئة في توجيه الناس إلى المفاسد
الإنسان مخلوق اجتماعي، منفعل ببيئته، متأثر بها ومؤثر فيها، ولا يستطيع أحد أن
يدعي أنّه يمكنه العيش في مجتمع فاسد أو بين أناس فاسدين من دون أن يتأثَّر بهم
بنحو من التأثّر. يقول الرسول صلى الله عليه وآله "صحبة الأشرار تُكسب الشرّ كالريح
إذا مرّت بالنتن حملت نتناً"(1). لذا حذّرت الآيات والأحاديث في أكثر من موضع
وبأكثر من صيغة من معاشرة رفاق السوء. فقد ورد في القرآن الكريم، على سبيل المثال،
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ
الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾
(الفرقان: 27 - 29). وفي ذلك إشارة واضحة إلى أنَّ الانحراف الذي أصاب سلوك
هذا الظالم تأتَّى من مرافقته لخليل استطاع أن يضلَّه بالرغم من معرفته بكلام الله
(الذكر) وبدعوة الرسول. وقد أكَّدت الدِّراسات التربويَّة الحديثة على خطورة
النمذجة كعنصر مؤثِّر وفعَّال في تشكيل سلوك الأولاد والناشئة. ونعني بالنمذجة
تماهي بعض الأولاد في سلوك غيرهم من الأقران أو ممن يعتبرونهم في موقع الأسوة
والقدوة كالآباء والعظماء والأبطال والمشاهير. فالقرين يمكنه التأثير في قرينه،
خاصة إذا كان بمثابة القدوة، ويكون ذلك عن طريق:
1 - الإغواء الفكريِّ
يتأثَّر الإنسان عموماً بأفكار من يرافقه، يقول الرسول صلى الله عليه وآله "المرء
على دين خليله وقرينه"(2). وللقرين، المقارب في العمر، تأثير مضاعف، يقول
تعالى
﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ
لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا
وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم
مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ﴾
(الصافات: 51-55). الإغواء الفكريِّ، بحسب ما يتَّضح من هذه الآية، يتمّ عبر
التوجّه إلى العقول الضعيفة أو الجاهلة، بأدلة ظاهرها منطقي وواقعها مزيف.
2 - الإغواء النفسي والعاطفي
ثمَّة طريق آخر للإغواء وهو الإغواء عبر التأثير في العواطف، يقول تعالى
﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء
فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ
إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾
(فصلت: 25). ويتمُّ ذلك، بتعبير الآية، عبر التزيين؛ والتزيين تجميل مصطنع،
يعتمد على الإغواء النفسي والعاطفي، بإظهار الأمور على غير حقيقتها، بطريقة تميل
إليها النفس وتهواها.
3 - الإغواء السلوكيّ
يتماهى الإنسان، من حيث يدري أو لا يدري، بسلوك من يعاشر، لذا يقول علي عليه السلام
"ينبغي للمسلم أن يجتنب مؤاخاة ثلاثة: الماجن والأحمق والكذاب"(3). ويتعاظم الإغواء
السلوكيِّ عندما يندمج الإنسان في جماعة، تمارس سلوكاً سيئاً. ومن أظهر
الأدلة على ذلك التماهي الضحك لمجرد رؤية مجموعة تضحك، وحتى من دون معرفة السبب؛
وكذلك البكاء أو الصراخ أو الهتاف... لذا شدَّدت وصايا المعصومين والصلحاء على عدم
مصاحبة المنحرفين عن جادَّة الصواب. عن علي عليه السلام:
"إيَّاك ومصاحبة
الفساق فإنّ الشرَّ بالشرِّ ملحق"(4).
* ثانياً: عناصر الجذب في القدوة السيئة
قد يتساءل بعضنا عن كيفيَّة انجذاب بعض الشباب إلى رفاق السوء بالرغم من معرفتهم
بانحرافهم؛ والجواب يكمن في عناصر الجذب. فقد أثبتت الدِّراسات أنَّ هناك
عناصر جذب تضع بعض الأشخاص في موقع جذب للآخرين، فينقادون إلى تقليدهم طوعاً أو
كرهاً بحسب الموقف.
وأهم عناصر الجذب هذه ثلاثة:
1 - الشهرة والنجوميَّة
فالناس عامَّة، والصغار والمراهقون خاصَّة، ينجذبون بشكل غير إرادي إلى من تُسَلَّط
عليهم الأضواء ويحاولون تقليدهم في كلِّ شيء حتى في طريقة اللبس ونوع الطعام وما
شابه. وتُستعمل حالياً هذا النوع من الجذب في الإعلانات عن السلع لترويجها
عبر إظهار بعض المشاهير يرتدونها أو يستقلونها.....(بحسب السلعة).
2 - الاقتدار والسلطة
ينجذب الناس عموماً، والمراهقون منهم خصوصاً، إلى من هم في موقع السلطة أو الاقتدار
المالي، وذلك لنيل رضاهم، إمَّا رغبة أو رهبة. يقول تعالى
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾
(الأحزاب: 6).
3 - الإيحاء بالمظلوميَّة
ثمَّة عنصر جذب آخر يجعل بعض الأبناء، والشباب منهم خاصة، يتأثَّرون ببعض رفاق
السوء، وهو الإحساس بمظلوميَّتهم، ويقوى تأثير هؤلاء إذا كانوا من الذين لديهم ميول
اجتماعية ويقدِّمون الخدمات للرفاق.
* ثالثاً: أسباب وقوع الخطأ في تحديد القدوة
بالرغم من قدرة النفس البشريَّة على التمييز بين الخير والشر بحسب الخلقة(5) إلاَّ
أنَّ الكثير من الناس معرّضون للوقوع في الخطأ في مجال تحديد القدوة.
ويعود ذلك لأسباب أهمها، في نظرنا، أربعة:
1 - فساد أحد الوالدين أو كليهما
يتماهى الأولاد، خاصَّة في مرحلة الطفولة، في سلوك والديهم، حيث يعتبر كلُّ طفل
أبويه هما نموذجه الأعلى. ويتعاظم تأثير الأب في المراحل الأولى إذا كان، بالرغم من
سلوكه المنحرف، عطوفاً وملبياً لطلبات أولاده؛ أمَّا إذا لم يكن كذلك، فيتماهى
الأولاد في سلوك أمِّهم. ولكن على مشارف مرحلة المراهقة، يعود الذكور منهم إلى
تقليد أبيهم، خاصة إذا لم تكن الأم قد بنت لديهم منظومة عقائديَّة وقيميَّة متينة
أو كانت غير قادرة على تلبية حاجاتهم الأساسية.
2 - الفراغ العاطفيّ والروحيّ
قد يكون الوالدان جيدين ولكنَّهما منشغلان وغير ملمّين بأصول التربية ومستلزماتها
فينهمكان في تأمين حاجات أولادهما الماديَّة (مأكل – مشرب – ملبس – طبابة....)
متناسيَين حاجاتهم الروحيّة والنفسيّة ما يجعل الأولاد يفتِّشون عن مصدر آخر للتفهم
والتعاطف والتواصل؛ ولكنَّهم غالباً ما يخطئون الاختيار.
3 - اختلال منظومة القيم
إنَّ انفتاح المجتمعات التي تحمل ثقافات مختلفة بعضها مع بعض، من خلال الفضائيَّات
وتكنولوجيا الاتِّصالات، وغياب المنظومة الفكريَّة المتينة التي تربط الأحكام
الفقهية بأُسسها العقائديَّة والأخلاقيَّة لدى المؤمنين، أدّيا إلى اختلال كبير في
منظومة القيم في المجتمعات الدينيَّة وغير الدينيَّة على حدٍ سواء. الأمر الذي جعل
الكثير من الشباب يخطئون في تحديد النموذج القدوة ويتعلَّقون بنماذج غير صالحة،
خاصة عندما تتوفَّر في هؤلاء عناصر الجذب، ولا تتوفَّر في غيرهم ممن يفترض فيهم أن
يكونوا في موقع القدوة الحسنة كالآباء والمعلِّمين، مثل تلك العناصر.
4 - انخفاض القدرات العقليَّة
ثمَّة سبب إضافي لا بدَّ من الانتباه إليه وهو مستوى الذكاء العقلي. فقد دلَّت
الدِّراسات على أنَّ ضعاف العقول ومنخفضي الذكاء معرَّضون أكثر من غيرهم للوقوع في
أشراك رفاق السوء الذين بدورهم يحسنون استغلالهم. ومن هنا تتأتَّى مسؤوليَّة الأهل
بضرورة إحاطة هذا النوع من الأولاد بعناية خاصة وبضرورة تزويدهم بالمهارات الحياتية
اللازمة.
* رابعاً: دور المجتمع في الحد من النمذجة السيئة
لا يستطيع أي مجتمع أن يقضي على نماذج القدوة السيئة ولكنَّه بالطبع عليه مسؤولية
كبيرة في الحدِّ من اتِّساع دائرة النمذجة السيئة ومعالجتها. كما وأنَّه من الصعب
جداً حماية الوالدين لأولادهما من رفاق السوء في ظلِّ مجتمع مستقيل من دوره
الأخلاقيّ والتربويّ(6). وأهمُّ ما يجب على المجتمع في هذا المجال:
1 - ترشيد الدور التربويّ للآباء والأمهات داخل الأسرة، بالشكل الذي يجعلهم حقاً
قادرين على التأثير الفكريّ والعاطفيّ والسلوكيّ في أولادهم أكثر من غيرهم، عن علي
عليه السلام "بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليها المرجئة"(7)، "وإنَّما
قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته"(8).
2 - إدماج تعلّم القيم والسلوك في العمليَّة التعلميَّة في المدارس بالشكل الذي
يضمن بناء منظومة قيمية متماسكة وعادات أخلاقية سليمة، لدى الأولاد، قبل بلوغهم عمر
المراهقة وفي أثنائها.
3 - مراقبة الوسائل الإعلاميَّة والمواد الإعلانيَّة بالشكل الذي لا يسمح لها
بتعميم السلوك السيئ والترويج له.
4 - التواصي بالحق عبر تطبيق فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروطها
وشرائطها، أي بالشكل الذي لا يؤدِّي إلى إشاعة الفاحشة مع الحرص على عدم تنفير
الناس وتحميلهم ما لا يطيقون.
5 - تكاتف المؤسسات والهيئات الأهلية لتحقيق التكافل الاجتماعي، فإنَّ الفقر والجهل
والمرض من أهمِّ الأسباب التي تُشعر الإنسان بالإحباط واليأس وتدفع به إلى الارتماء
في أحضان رفاق السوء.
(*) باحثة إسلامية في الشأن التربوي والأسري.
(1) ميزان الحكمة، الريشهري: ج5، الصديق، ح10252.
(2) وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج11، ص502.
(3) ميزان الحكمة: ج1، الأخ، ح 24.
(4) ميزان الحكمة: ج5، الصديق، ح1027.
(5) {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (الشمس:
7-8).
(6) مراجعة بحث السيد الطباطبائي في ميزان الحكمة ج4، من صفحة 92 إلى 133.
(7) الكافي، الشيخ الكليني، باب تأديب الولد، ج6، ص47.
(8) نهج البلاغة: جزء 3، من وصية له لولده الحسن عليه السلام، وقد جمع من كل حكمة
طرفة.