تحقيق: فاتن إبراهيم شكر
المراهقة هي مرحلة انتقال الفرد إلى البلوغ والرشد، ومغادرة الطفولة. وتترافق مع هذا النمو مظاهر تتميز بتطوّرات انفعاليّة، جسديّة، ونفسيّة واجتماعيّة، أولاها علماء النفس والاجتماع الاهتمام لتفسيرها وعلاجها، والغالبية منهم اعتبرها مشكلة تتعلق بمزاجيّة المراهق، بسبب عدم انسجامه وإدراكه لهذه المتغيّرات. واعتبر آخرون أنّ هذه السن هي بداية مرحلة العطاء والإنتاج الفكري والجسدي والمسؤوليّة، فقد قال الإمام الخميني قدس سره في خطابه للشباب: "أنتم الآن بما أنه لديكم هذه النعمة، نعمة الشباب، فاعرفوا قدَرها ولا تهدروها". وقد اعتبر دستور الجمهورية الإسلامية أن سنّ الخامس عشرة هو سنُّ المسؤولية والنّضج فسمح لمن بلغ هذه السن بالمشاركة في الحياة السياسيّة في إيران (حق الانتخاب على سبيل المثال).
*نحن شباب ولسنا مراهقين
يشكو معظم الشباب من عدم تفهّم الأهل لحاجاتهم واتهامهم لهم بسوء الطبع، فهم يعتبرون أنفسهم جديرين بتحمل أعباء الحياة. وقد تحدّثنا مع عدد منهم ووقفنا على أساليب الأهل وحيرتهم في التعاطي مع أبنائهم، وهذه الخلاصة:
"علي (سبعة عشر عاماً)" أهلي دائماً يعترضون ولا يسمحون لي بالتصرف بحرية، فمنذ أن تركت المدرسة وهم دائماً يلقون علي اللوم والوعظ. فهل الحياة فقط علم وشهادات؟ وأضاف وبعبارة الواثق من نفسه: "وهل يقبض المتعلّم أكثر مما أحصل عليه في عملي"؟
وتحت شعار "خالف تُعرف" تظهر من المراهقين بعض التصرفات التي لا يحتملها الأهل، ففي مقابلة مع "وائل"، الذي يسرّح شعره دائماً تسريحة غريبة وملفتة، قال بجرأة: "أرتاح كثيراً بهذا الشكل وأشعر أنّني مميز فالكل ينظر إليّ، ورفاقي يسألونني دائماً: ماذا تفعل لشعرك حتى يكون هكذا"؟
*ما بين القدوة والتربية، أيها الأهل ما هو دوركم؟
"سونيا" أم لفتاة عمرها خمسة عشر عاماً، تحدّثنا عن تجربتها مع ابنتها، بقولها: "هذا الجيل متعب جداً ومن الصعب التفاهم معه. أحاول دائماً أن أربّي أولادي على الضوابط الدينيّة والأخلاقيّة لكنّ البيئة المحيطة تحول دون ذلك". وتواصل كلامها متنهدةً: "تريد ريم أن أوافق على رحلة مدرسية مختلطة، وفي الباص غناء ورقص، وعندما أبلغتها أن عدم موافقتي لمصلحتها، جنّ جنونها".
أما شيرين، وهي أم لمحمد (15 سنة) وحسين (12 سنة) فإنها تُحدّثنا عن ولديْها واختلاف طباعهما، فتقول: "محمد هادئ منذ صغره وقد تأثّر بي حين كنت أقرأ مجالس العزاء، فكان يردد اللطميات ويحب الصلاة في المسجد واستمر على هذا المنوال، وقد شجعته على لعب كرة القدم كمهارة بدنية وعقلية للإفادة من وقته". تنفّست عميقاً وأكملت: "أما ابني حسين فهو عنيد، لا يستمع إليّ، ويعرّضني لمشاكل مع الناس بتصرفاته العشوائية".
*ليتني أطعت أهلي
وتحدثنا زهراء (27 عاماً) عن تجربتها التي تعتبرها نزوة مراهقة، بقولها: "كنت في الثانوية بعمر الخامسة عشر عندما تعرفت إلى شابٍ وادّعى أنه يحبني فانبهرت بكلامه، ولأنني كنت أماشي رفقة السوء شجعوني على الاستمرار معه، لكنّ أهلي لم يوافقوا على الزواج منه فأصررت على رأيي وتزوجته وكانت تجربة فاشلة جداً، فقد خسرت مستقبلي وحياتي وأهلي". وتكمل زهراء وعيناها مليئتان بالدموع: "الأهل على حق وهم يفكرون في مصلحة أبنائهم. أنصح الأهل أن يحسنوا تربية أبنائهم ويراقبوهم بشكل مستمر لأن ذلك هام للأبناء ويؤثر على حياتهم إلى الأبد".
*كيف كانت تربية القادة لأبنائهم؟
هم الذين عاشوا قضايا الأمة وقضوا العمر في خدمتها، وكانوا جامعةً أعطت شهادات العز لأجيال مجاهدة ولرجال صنعوا الكرامات. فكيف كانت علاقتهم مع أبنائهم؟ في هذا الخصوص كان لنا لقاء مع الحاجة أم أحمد زوجة الشهيد الشيخ راغب حرب.
تتذكر الحاجة أم أحمد الوصايا الطيبة والقيم المثلى التي كان يمثلها الشيخ بتعاطيه مع أبنائه بقولها: "كان الشيخ محباً للأطفال، وكان يعتبر أنه لأجل نشأة جيل صالح ومؤمن يجب أن يتّبع الأهل مسلكيّات أخلاقيّة وعقائديّة، يبنون من خلالها شخصيّة إنسان سويّ يندمج مع مبادئه وبيئته".
"كان يتعامل مع أولاده ومع كل الأولاد الذين كان يصادفهم في حياته كأصدقاء. لقد كان يرى أنه عبد مسؤول أمام الله في عبادته وتصرفاته، فكان دوره توجيهياً في أسلوب أدائه التربوي، ويدعو الأبناء ليكون لديهم قدوة في حياتهم كالأكبر والقاسم، ويشدد على ضرورة بذل طاقاتهم في خدمة الإسلام، وهذا ما استطاع المجاهدون في إيران القيام به وهم من فئة الناشئة. لم يشجع الشيخ أبداً قصاص أو ضرب الولد، بل كان يعتبر أننا نواجه خلللاً وعلينا إصلاحه".
تضيف الحاجة أم أحمد: "أما أهم أساليبه الفعّالة في التربية فهو حثُّ الأبناء على العبادة الصحيحة في عمرٍ مبكر، وقراءة القرآن وتجويده، إضافة إلى ترديد اللطميات والعزاء. وكان يشجعهم على التكلم بالعربية الفصحى حتى وإن أخطأوا، وعلى المطالعة التي تعكس الآثار الفعالة في شخصية المراهق، فعندما كان في النجف الأشرف كان يجهّز مكتبة تخدم الناشئة، بالإضافة إلى تشجيعه على الصلاة في المسجد وخدمته". وتختم قائلة: "لقد ترك الشيخ راغب إرثاً أخلاقياً أنتج جيلاً من المجاهدين، فهناك بيوت أهلها ليسوا متديّنين تبيّن أن أبناءهم مجاهدون وسقط منهم شهداء، لأنهم تأثّروا بأقوال الشيخ الشهيد عندما كان يزورهم في بيوتهم".
*أهلي: أحسِنوا مصاحبتي فأنا أحتاج إليكم
"أشعر بالصداع والإعياء، القلق والتوتر، مما يزيد النقد لي، ولكن هل تعلمون أنه يحدث تغير في معدل النبض لدي بحيث ينخفض بعد البلوغ بمعدل ثماني نبضات، وينخفض الأوكسجين نسبة إلى نمو رئتيّ وازدياد حجمهما، وتسقط الأشياء من يدي، وهل تعلمون أن أطرافي تطول قبل بقية جسمي ويكون نمو عظامي أسرع من نمو عضلاتي ما يؤدي إلى اختلال توازني الحركي"؟
بهذه العبارات العلمية التربوية تتوجه الأستاذة شافية عز الدين حمود (مرشدة تربوية واجتماعية في ثانوية المهدي الشرقية - ماجستير في علم الاجتماع)، وتؤكّد على ضرورة تفهّم الأهل لهذه المرحلة مع ما تصيب أولادهم من تداعيات نفسيّة وجسديّة، وتحدثنا قائلة: "إن ما يشتمل عليه المراهق هو مشاعر وأحاسيس غير متوازنة، وأسئلة حول نفسه والآخرين، والأحكام والشرائع، ينتج عنها التوتر والقلق الحاصلان من التباس العلاقة بين الاستقلال والتبعية، وبين الحاجة للآخر والرغبة في التمرد عليه والعلاقة بينه وبين أهله ومجتمعه وربه. وتمتد هذه الفترة من عمر (11 سنة إلى17 سنة) وتتخذ طابع الأزمة بمصطلح "اضطراب البلوغ"، فينطلق المراهقون للبحث عن أسرار واقعهم الجديد من خلال دوافعهم التي تبدو غير سوية وموجهة بعد، كاتخاذ قرارات لنفسه وبنفسه، وتكوين علاقات وصداقات متينة والتخلص من قيود الأهل.
إنّ معظم مظاهر النزاع التي تحصل مع المراهق هي عدم معرفة الأهل بخصائص هذه المرحلة والتغيرات الحاصلة والتي تنتج عنها هذه السلوكيات، فعليهم أن يدركوا حقائق التربية بأبعد من خلفياتهم.
وتؤكد الأستاذة شافيه على ركائز ضرورية تترافق مع هذه المرحلة لتحقيق توازن صحيح يحتاجه المراهق، وتعددها على النحو التالي:
1- الحاجة إلى المكانة والتقدير:
بحيث يجب على الأهل إظهار الثقة بولدهم واحترامه وحثّه على تحمّل المسؤوليات، والمحافظة على خصوصياته وأن يخططوا معه ويشاوروه في بناء مستقبله.
2- الحاجة لعقيدة فكرية وإيجاد القدوة الإدراكية:
تتفتح القدرات العقلية عند الشاب في سن المراهقة، فينطلق ليبحث عن فلسفة تقنع عقله وتستجيب لميوله، ويبدأ بطرح أسئلة عن الله والكون والموت والسياسة والاجتماع لذا يجدر بالأهل مواكبة أبنائهم لحمايتهم من تداعيات العصر السلبية، ومعرفة من هم أصدقاؤهم لأن فيهم صورة المؤثر والقدوة.
3 - الحاجة إلى الحب والحنان وإثبات النفس:
إن إهمال حاجات المراهق العاطفية في هذه المرحلة يؤدي إلى خلل في شخصيته، لذا يجب إظهار الحب له والعطف عليه، فهو بأمس الحاجة إليهما ومساعدته للانتقال إلى مرحلة الاعتماد على النفس، وعدم مواجهته بعصبية أو تعنيفه جسدياً ونفسياً، وتجنب لومه، أو مقارنته بأقرانه، والسخرية منه، بل الاستماع إليه لحل مشاكله، لذا لا بد معه من اتباع الحوار والإقناع وليس ممارسة السلطة.
وتختم المرشدة الأستاذة شافية كلامها بضرورة توجيه الشاب إلى الاهتمام باكتساب المهارات الحسيّة كالعزف على الآلات الموسيقية، وممارسة بعض الألعاب الرياضية، والكتابة على الكمبيوتر، والانضمام إلى النوادي الكشفيّة والحوزويّة".
*ضوابط تغذّي عقل وقلب المراهق
السيد حسن شكر (مدرّس في الحوزة العلمية) يؤكد على لزوم متابعة المراهق في هذه المرحلة، ويؤكد أن هذه المرحلة هي المفترق الفاصل بين دربين، فإما درب الهدى أو دروب الغي والضياع.
وأفضل نموذج يمكن إن نسلّط الضوء عليه في هذا المضمار هو ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "... فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبُّك لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كُفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة"1.
فالتجربة الّتي ينبغي أن تُنقل للشابّ لها دور مؤثّر في تأمين سعادته وتمزيق أستار الأوهام والتصوّرات الباطلة، فكلّ تجربة تفتح في قلب الإنسإن باباً من العلم وتقرّبه من الحقيقة خطوة، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "وفي التجارب علم مستأنف"2.
ويرى السيد شكر أنه لا بد من العمل على أن يتفقّه شبابنا في الدين لأن الشاب في هذا العمر يدرك سنّ البلوغ ولا بدّ له من معرفة التكاليف الإلهيّة الّتي أُلقيت على عاتقه، وقد ورد في الحديث عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لو وجدت شابّاً من شبّان الشيعة لا يتفقّه لضربته ضربة بالسيف"3.
كما أن التعلّم لأحكام الدِّين والفهم لأهداف الإسلام يؤمّنان للشابّ هدفاً صالحاً، فلا يُترك فريسة لأوهام النفس ووسوسات الأفكار والتيّارات المنحرفة، دون إرشاد، ما قد يتسبّب بضياعه.
كذلك يتجلّى دور الأهل في هذا المجال في إفهام الشابّ أن الفتوّة الحقيقيّة ليست في عظمة الساعدين ولا عرض المنكبين والقوّة في العراك، بل في العقل الواعي والقلب المليء بالإيمان، فإن هذا المعنى هو الّذي يريدنا أهل البيت عليهم السلام أن نعيه، ففي الرواية: "ألا أدلّكم على أشدّكم وأقواكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أشدّكم وأقواكم الّذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحقّ، وإذا قدر لم يتعاطَ ما ليس له بحقّ"4.
*خاتمة
إن الله أراد للإنسان أن يخرج إلى النور وأن يتكامل بالأسس الصالحة المبنيّة على خلفية أخلاق أهل البيت عليهم السلام وتعاليم القرآن. وهذا الإرث واجب روحي لأعزّ الناس وأهمّ النعم وهم أولادنا، وبهذا نكون قد وجّهنا الشابّ إلى الهدف الواقعيّ والصحيح، أي السلوك المستقيم، بحيث يصبح عنصر خير لمجتمعه، يعيش الصلاح في الدنيا، فيكون من أحبّ الخلائق إلى الله تعالى، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أحبَّ الخلائق إلى الله عزّ وجلّ شابّ حَدَثُ السنّ في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الّذي يُباهي به الرحمن ملائكته، يقول: هذا عبدي حقّاً"5.
1- نهج البلاغة، من وصية الإمام عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام (31).
2- الكافي، الكليني، ج8، ص22.
3- بحار الأنوار، المجلسي، ج75، ص346.
4- الأمالي، الصّدوق، ص72.
5- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1401.