عن الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف: "وتفضّل...
على الأغنياء بالتواضع والسعة، وعلى الفقراء بالصبر والقناعة"(1).
تعدّ مشكلة الفقر من المشاكل التي عانت منها البشرية على مدار عمرها، حيث يختلف
أفراد المجتمع من حيث الغنى والفقر. والثروات يحوزها أناس ويُحرم منها آخرون،
ليَبتلي الله الناس بعضهم ببعض. ولا شكّ في أن الإسلام بنظامه الماليّ الخاصّ، قدّم
حلولاً لهذه المشكلة على أكثر من صعيد، سواء من جهة الاعتقاد بالملكيّة الحقيقة لما
بين يدي الإنسان، وضرورة إرجاع ذلك كلّه إلى الله سبحانه وتعالى، فهو المالك
والرازق، أو من جهة بيان الأخلاق ورسم الآداب لعمليّة الإنفاق، من طرف المعطي
والمنفق أو من طرف الفقير، أو من جهة الأعمال والوظائف الماليّة التي حثّت عليها
الشريعة الإسلاميّة، ومنها مسألة الصدقة التي نريد الإطلالة عليها من زاوية خاصة،
وهي كيفية علاج الصدقة لمسألة الفقر.
•الصدقة تجلب الرزق
من جملة الآثار التي ذكرت في الروايات للصدقة هي أنها من أسباب الرزق، عن الإمام
الصادق عليه السلام: "إني لأملق أحياناً، فأتاجر الله بالصدقة"(2).
والمتاجرة مع الله من لطائف الرحمة الإلهية؛ لأنّ الله تعالى نزّل نفسه منزلة
المشتري مع العبد، مع أنّه هو الرزّاق والمعطي، فالعبد بصَدقته يتاجر مع الله تعالى،
فيتصدق العبد بما عنده على الفقراء، والله سبحانه يخلُفها عليه بأضعافٍ مضاعفة. وفي
دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "وأَنْتَ الَّذِي زِدْتَ فِي السَّوْمِ
عَلَى نَفْسِكَ لِعِبَادِكَ، تُرِيدُ رِبْحَهُمْ فِي مُتَاجَرَتِهِمْ لَكَ،
وفَوْزَهُمْ بِالْوِفَادَةِ عَلَيْكَ، والزِّيَادَةِ مِنْكَ، فَقُلْتَ- تَبَارَكَ
اسْمُكَ وتَعَالَيْتَ-: ﴿مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَه
عَشْرُ أَمْثالِها، ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها﴾ (الأنعام:
160)، وقُلْتَ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، والله يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ﴾
(البقرة:261)، وقُلْتَ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَه لَه أَضْعافاً كَثِيرَةً﴾ (البقرة: 245).
ومَا أَنْزَلْتَ مِنْ نَظَائِرِهِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ تَضَاعِيفِ
الْحَسَنَاتِ"(3).
•دوائر الإنفاق
إذا لاحظنا الروايات الواردة في الصدقة والإنفاق، نجد أنّها تجعل ذلك ضمن دوائر،
الأقرب فالأقرب.
- الدائرة الأولى: العيال
فأوّل ما ينبغي للإنسان أن يتنبّه له، هو الإنفاق على عياله، والتوسعة عليهم، وقد
ذكر الفقهاء أنّ ذلك أفضل من الصدقة؛ وذلك لما ورد في فضل ذلك من الروايات: فعن أبي
حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: "أرْضَاكم عند الله أسبغكم
على عياله"(4). وعن أبي الحسن عليه السلام قال: "ينبغي للرجل أن يوسِع على
عياله كي لا يتمنّوا موته"(5). وعن الرضا عليه السلام أنه قال: "صاحب النعمة
يجب عليه التوسعة على عياله"(6). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل
الصدقة صدقة تكون عن فضل الكفّ"(7).
- الدائرة الثانية: الأرحام
بعد مراعاة الدائرة الأولى، ينتقل الإنسان إلى الإنفاق والصدقة في الدائرة الثانية،
وهم الأقارب والأرحام؛ فعن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال: "سمعت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يقول: ابدأ بمن تعول؛ أمّك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك
فأدناك"(8).
وعن عمرو بن يزيد، عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: سُئل عن الصدقة على من
يَسأل على الأبواب، أو يُمسك ذلك عنهم ويعطيه ذوي قرابته، فقال عليه السلام: "لا،
بل يبعث بها إلى من بينه وبينه قرابة، فهذا أعظم للأجر"(9). ولعلّ مضاعفة الأجر
بسبب ما تحقّقه من صلة الرحم أيضاً، كما في بعض الروايات، فعن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أنّه قال: "صدقة ذي الرحم على ذي الرحم صدقة وصلة"(10).
ولأنّ هذه الدائرة على درجة من الأهمية، فقد ورد النهي عن الصدقة خارجها مع وجود
الحاجة فيها، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "لا صدقة وذو رحم محتاج"(11).
ولذا تتأكّد أيضاً على الرحم الكاشح؛ أي الذي يضمر لك العداوة، أو يعرض عنك لعداوته،
فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أيّ الصدقة أفضل؟ قال: على ذي الرحم الكاشح"(12). وحيث إنّ الأرحام ليسوا
على درجة واحدة من القرب، فيترتّبون على دوائر الأقرب فالأقرب أيضاً.
- الدائرة الثالثـــة: الجيران
من نافلة القول الحديث عن حقّ الجار وما ورد في فضل حُسن الجوار في الآيات
والروايات، حتى روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما زال جبرائيل يوصيني
بالجار حتى ظننت أنّه سيورثه"(13).
ولذا، فمن الطبيعي أن تأتي الوصيّة بهم في الإنفاق والصدقة أيضاً، فعن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أنّه قال لأصحابه يوماً: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات
شبعان وجاره جائع، فقلنا: هلَكنا يا رسول الله، فقال: مِن فضل طعامكم، ومِن فضل
تَمركم ورزقِكم وخلقكم وخرقكم، تطفئون بها غضب الرب"(14).
وعن الإمام أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، قال: وما من أهل قرية يبيت [و] فيهم جائع،
ينظر الله إليهم يوم القيامة"(15). وإذا تنبّهنا إلى أنّ الجيران على مراتب من
القرب والبعد، نعلم أيضاً أنّ الإنفاق على الجيران أيضاً يترتب على دوائر حسب
الأقرب فالأقرب منهم.
- الدائرة الرابعة: عموم المؤمنين والمحتاجين
وهي الدائرة الأخيرة التي ينبغي للإنسان أن ينفق ويتصدّق على أفرادها، وقد ورد في
فضلها كثير من الآيات والروايات، حتّى ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
وصيّته لأمير المؤمنين عليه السلام: "أمّا الصدقة، فجهدك حتى تقول: قد أسرفت،
ولم تسرف"(16). وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَوَأبيت مبطاناً وحولي بطونٌ
غَرثى وأكبادٌ حرّى؟ أو أكون كما قال القائل:
وحولك أكباد تحنّ إلى القدِّ" (17). |
وحسبك داء أن تبيت ببطنة |
•وقفة أخيرة
لو تأمّلنا هذه الدوائر بشكل جيد، ونظرنا إلى واقع مجتمعنا من حيث الحاجة والفقر،
وما ورد من الحثّ على الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى، وطبّق كل واحد منّا ما
يقدر عليه في داخل هذه الدوائر، لاستطعنا أن نحلّ جزءاً كبيراً من مشاكل الفقر
والحاجة في المجتمع، ولارتدّت نتائج هذه الحركة شيئاً فشيئاً على صاحبها أيضاً لو
كان من الفقراء. قال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ
إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن: 60)، ولاستطعنا حينئذٍ أن نفهم بُعداً
اجتماعياً من أبعاد ما ورد من أنّ الصدقة تنفي الفقر، وهو من لطائف التدبير الإلهي
الاجتماعي، كما عن الإمام أبي جعفر عليه السلام، قال: "البرّ والصدقة ينفيان
الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء"(18).
غير أنّ الخلل الذي يحصل من عدم الإنفاق والصدقة من ناحية، وعدم ترتيب الدوائر
وتنظيمها من ناحية أخرى، يخلق آثاراً سلبية في المجتمع، كما نراه في واقعنا الحالي.
وليس لنا إلّا أن ندعو بتعجيل الفرج، عسى أن نرى بعضاً من عدله صلوات الله عليه في
هذا المجال، كما نقرأ في دعاء الافتتاح: "وأغنِ به عائلنا، واقضِ به عن مغرمنا،
واجبر به فقرنا، وسدّ به خلّتنا".
(*) باحث إسلامي.
1. كلمة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، السيد حسن الشيرازي، ص309.
2. ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص1596.
3.الصحيفة السجاديّة، من دعائه عليه السلام في وداع شهر رمضان، رقم 45.
4. الكافي، الكليني، ج4، ص11.
5. (م، ن).
6. الوافي، الفيض الكاشاني، ج10، ص437.
7. وسائل الشيعة (الإسلامية)، الحر العاملي، ج12، ص153.
8. ميزان الحكمة، (م، س)، ج2، ص1599.
9. ثواب الأعمال، الصدوق، ص173.
10.ميزان الحكمة، (م، س)، ج2، ص1599.
11. (م، ن).
12.الكافي، (م، س)، ج4، ص10.
13.الأمالي، الصدوق، ص514.
14.وسائل الشيعة، (م، س)، ج17، ص209.
15.الكافي، (م، س)، ج 2، ص668.
16.ميزان الحكمة، (م، س)، ج2، ص1602.
17.نهج البلاغة، من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف، رقم 45.
18.ميزان الحكمة، (م، س)، ج2، ص1596.