الشيخ خضر ديب
"فَــكَيْـــفَ احْتِمــــالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ؟!". في
ليالي الجمعات المباركة وليالي القدر في شهر رمضان، تجتمع قلوب المؤمنين لمناجاة
الله ودعائه، وإذا بهم يجدون أنفسهم في موقف مهيب، يستحضرون الآخرة والحساب، ليجنح
بهم "دعاء كميل" خارج الخوف من العذاب باتجاه خوف أرقى... من الفراق. وتبدأ القلوب
تلهج بالاستغفار وتتعلّم التوبة. وينتهي الدعاء هكذا كل ليلة مباركة لنعود إلى
الدنيا بهمّة أكبر. اقرأ معنا تلك الجمل لعلّها تَحْضُرُنا آخر الأجل.
* ما هكَذَا الظَّنُّ بِكَ!
عندما يدعو الإنسان قائلاً: "وَلَيْتَ شِعْري يا سَيِّدي وَإِلهي وَمَوْلايَ،
أَتُسَلِّطُ النّارَ عَلى وُجُوه خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً، وَعَلى أَلْسُنٍ
نَطَقَتْ بِتَوْحيدِكَ صادِقَةً، وَبِشُكْرِكَ مادِحَةً، وَعَلى قُلُوب اعْتَرَفَتْ
بِإِلهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلى ضَمائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتّى
صارَتْ خاشِعَةً، وَعَلى جَوارِحَ سَعَتْ إِلى أَوْطانِ تَعَبُّدِكَ طائِعَةً
وَأَشارَتْ بِاسْتِغْفارِكَ مُذْعِنَةً، ما هكَذَا الظَّنُّ بِكَ وَلا أُخْبِرْنا
بِفَضْلِكَ عَنْكَ يَا كَرِيمُ"، فهو في الوقت الذي يعترف للنفس بتقصيرها
وعبوديّتها، يلقّنها عدم اليأس من رحمة الله تعالى وكرمه، ثمّ يكلّم النفس، من طرف
خفي، لتلقينها واجباتها العليا حتى يستأهل التفضل من الله بالمغفرة، وهذا ما يشوّق
المرء إلى أن يرجع إلى نفسه فيعمل ويؤدّي تلك الواجبات(1).
* كَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ؟
وورد في الدعاء نفسه أسلوبٌ آخرُ من الاحتجاج: "فَهَبْني يا إِلهي وَسَيِّدِي
وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ،
وَهَبْني (يا إِلهي) صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ
إِلى كَرامَتِكَ". وهذا فيه تلقين للنفس بضرورة الالتذاذ بقرب الله تعالى
ومشاهدة كرامته وقدرته، حبّاً له وشوقاً إلى ما عنده، إلى درجة أن يبلغ تأثير (إبعاده
وتركه في النار)، في نفسه أعظم من العذاب وحرّ النار، فلو فرض أن الإنسان تمكّن من
أن يصبر على حرّ النار، فإنه لا يتمكّن من الصبر على فراق معشوقه وسيّده ومولاه.
كما تفهمنا هذه الفقرات أن هذا الحب والالتذاذ بالقرب من المحبوب المعبود خير شفيع
للمذنب عند الله؛ لأن يعفو ويصفح عنه(2).
وهنا يذكر السيد عبد الأعلى السبزواري جملة ينبغي التوقف عندها: "في هذه الفقرة
دلالة على أشديّة نار الفراق من نار جهنم، مع أنّها نار تطّلع على الأفئدة"(3).
* لا أَجِدُ مفرّاً غيرك
"وَقَدْ أَتَيْتُكَ يا إِلهي بَعْدَ تَقْصيري وَإِسْرافي عَلى نَفْسي مُعْتَذِراً
نادِماً مُنْكَسِراً مُسْتَقيلاً مُسْتَغْفِراً مُنيباً مُقِرّاً مُذْعِناً
مُعْتَرِفاً لا أَجِدُ مَفَرّاً مِمّا كانَ مِنّي...".
هذه الحالات التي يذكرها الإمام عليه السلام على نوعين: قسم منها فيه حالة قلبيّة
محضة مثل (الندامة، والانكسار)، وهي أمور قلبيّة لا تحتاج إلى بيان... وقسم آخر فيه
إبراز وبيان، كجلمة: "مُقِرّاً مُذْعِناً مُعْتَرِفاً"؛ فالمؤمن يعيش حالتين:
حالة الندامة الباطنيّة، وحالة إظهارها والاعتراف بها! فالحالة التي يريدها الإمام
منّا، هي هذه الحالة من "الاستكانة والندم الباطني".
* لأضِجَّنَّ إِلَيْكَ ضَجيجَ الآمِلينَ
"فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً لَئِنْ تَرَكْتَني
ناطِقاً لأضِجَّنَّ إِلَيْكَ بَيْنَ أَهْلِها ضَجيجَ الآمِلينَ وَلأَصْرَخَنَّ
إِلَيْكَ صُراخَ الْمَسْتَصْرِخينَ، ولأبكين عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدينَ،
ولأُنادينك أَيْنَ كُنْتَ يا وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ، يا غايَةَ آمالِ الْعارِفينَ،
يا غِياثَ الْمُسْتَغيثينَ، يا حَبيبَ قُلُوبِ الصّادِقينَ"(4)، فهنا ضجيج
واستغاثة، والتجاء كبير إلى ساحة الله. "والعارف هو المنصرف بفكره إلى الله سبحانه
مستديماً لشروق نور الحقّ في سره"(5).
لنجلس بين يدي الله، ونفتح قلوبنا له، ونتحدّث مع الله ولسان حالنا: يا ربّ: نحن
تائبون إليك، وأنت تحبّ التوّابين، فاقبل توبتنا(6).
* بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ
"فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَليلِ (حُلُولِ) وُقُوعِ الْمَكارِهِ
فيها وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ وَيَدُومُ مَقامُهُ... فَكَيْفَ بِي وَأَنَا
عَبْدُكَ الضَّعيفُ الذَّليلُ الْحَقيرُ الْمِسْكينُ الْمُسْتَكينُ؟!". سخطك يا
رب لا تتحمله السموات والأرض، فمن أنا حتّى أتمرّد عليك، وأواجهك بالمعصية صباحاً
ومساءً؟!
* هَبْني لابْتِداءِ كَرَمِكَ
نلاحظ أن العبد في طريق العودة إلى الله تعالى يستعين بأربع وسائل:
1- سابق رحمته وكرمه (نتوسل بها) "يا مَنْ بَدَأَ خَلْقي... هَبْني لابْتِداءِ
كَرَمِكَ...".
2- عدم الشك في الإيمان بالله، وحبّه "أَتُراكَ مُعَذِّبي بِنارِكَ بَعْدَ
تَوْحيدِكَ... وَبَعْدَمَا اعْتَقَدَهُ ضَميري مِنْ حُبِّكَ؟!".
3- ضعف الإنسان عن تحمل العذاب في الدنيا، فكيف بعذاب الآخرة؟ "وَأَنْتَ تَعْلَمُ
ضَعْفي عَنْ قَليل مِنْ بَلاءِ الدُّنْيا... فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ؟!
إِلهي وَرَبّي، لأَيِّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَشْكُو...".
4- لجوء العبد الآبق إلى مولاه، عندما تنقطع به الطرق في الآخرة باتجاه العذاب:
"فَبِعِزَّتِكَ يا سَيِّدي وَمَوْلايَ أُقْسِمُ صادِقاً لَئِنْ تَرَكْتَني ناطِقاً...
وَلأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بُكاءَ الْفاقِدينَ، وَلأُنادِيَنَّكَ أَيْنَ كُنْتَ يا
وَلِيَّ الْمُؤْمِنينَ، يا غِياثَ الْمُسْتَغيثينَ".
* هَبْنِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
نلاحظ هنا كيف ينتقل العبد من الحضيض إلى القمّة: "أَنْ تَهَبَ لي في هذِهِ
اللَّيْلَةِ وَفي هذِهِ السّاعَةِ كُلَّ جُرْم أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْب
أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيح أَسْرَرْتُهُ، وَكُلَّ جَهْل عَمِلْتُهُ" ثم يقول: "مِنْ
أَحْسَنِ عَبيدِكَ نَصيباً عِنْدَكَ، وَأقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ،
وَاَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ"، فهنا نلاحظ انتقالاً من الحضيض حيث أنا (عندما
أنظر إلى ذنوبي بعد استحضار حالي في الآخرة)، إلى حال الأمل، عندما أنظر إلى رحمة
الله، وكرمه، مواهبه، وعطائه، هنا: (أطمح إلى أن أكون من أحسن عباد الله).
* عودٌ إلى حال الدنيا
بعد عرض حالة الحساب والفقد والبُعد عن ساحة الله، يعود المؤمن بقلبه عبر الدعاء
إلى حال الدنيا، فيميّز فرصه فيها:
1- يسأل الله أن يهبه ذنوبه (الدعاء لغفران الذنب): "فَأَسْأَلُكَ... أَنْ تَهَبَ
لي كُلَّ جُرْم أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْب أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيح
أَسْرَرْتُهُ، وَكُلَّ جَهْل عَمِلْتُهُ، كَتَمْتُهُ أَوْ أَعْلَنْتُهُ أَخْفَيْتُهُ
أَوْ أَظْهَرْتُهُ...".
2- يعترف: أنا فقير إلى رحمتك في الدنيا والآخرة (فأنا أمدّ يدي إليك) "وَأَنْ
تُوَفِّرَ حَظّي مِنْ كُلِّ خَيْر أَنْزَلْتَهُ أَوْ إِحْسان فَضَّلْتَهُ أَوْ بِرٍّ
نَشَرْتَهُ أَوْ رِزْق بَسَطْتَهُ أَوْ ذَنْب تَغْفِرُهُ أَوْ خَطَأ تَسْتُرُهُ".
3- يدرك أنّ عليه توثيق علاقته بالله وتحسينها، وهي من أجمل المراحل: "أَنْ
تَجْعَلَ أَوْقاتي مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً،
وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَأَعْمالي عِنْدَكَ مَقْبُولَةً حَتّى تَكُونَ
أَعْمالي وَأَوْرادي كُلُّها وِرْداً واحِداً وَحالي في خِدْمَتِكَ سَرْمَداً".
4- يطلب من الله حفظه من شرور الدنيا وشرور الناس: "اللّهُمَّ وَمَنْ أَرادَني
بِسُوء فَأَرِدْهُ وَمَنْ كادَني فَكِدْهُ".
* لماذا يرسّخ "دعاء كميل" مشاهد الآخرة؟
لا شكّ في أنّ استحضار الآخرة ومواقفها، يهيّئ الإنسان ويذكره بأهداف حياته والسبيل
لصالحه، حيث يوضح الدعاء الحالات النفسية، عبر:
1- التوسّل: في الدعاء توسّل إلى الله بصفاته الحسنى، ما يوحي إلى الداعي أن
يتنبّه من غفلته. إنّه يتكلّم مع الله، الذي خضع لقدرته كلّ شيء، وأحاط علمه بكلّ
شيء.
2- إظهار العبودية لله: إنّ بيان ضعف الإنسان وفقره، وعدم قدرته،
يقابله بيان عظمة الله، وسَعَة رحمته، والثقة به، -كلّ ذلك من أسباب العفو واستجابة
الدعاء، وهو تعليم لأدب سؤاله تعالى؛ ما يبعث الداعي على البعد عن التكبّر، وهو
يستشعر العبودية لله، والسير مع العقل، ليعرف مكانه من المجتمع والعالم، ويضع
الأشياء في مواضعها، طبق نظام الخلقة، نظام الشريعة الإسلامية.
3- الاعتراف: يكرّر الدعاء مواقف اعتراف كثيرة؛ الاعتراف بنعم الله -سبحانه-
والاعتراف بالذنب والتقصير، والاعتذار، والاستعطاف، وشكوى إلى الله تعالى، وبيان
الاضطرار، وشدّة الابتلاء، ثمّ استغاثة والتجاء، وانقطاع له سبحانه. وضمن الاعتراف
بيانٌ لصور الرقابة على الإنسان، وتعداد لبعض آثار الذنوب، وصور عذاب الآخرة،
وكيفية الوقوع في المخالفة، ما يوحي إلى الداعي بالخشوع، والتوبة، ومحاسبة النفس،
والتقيّد بأحكام الله، والتحفّظ من الذنوب، ومن العدو الأول، الشيطان.
4- عرض لوازم السير والسلوك: ما يزوّد الداعي بطاقة من العزم، والهمّة، والفتوة،
وإلزام النفس باستثمار الحياة والعمل الصالح، ومنعها عن الكسل.
يحسن أن يستشعر الداعي معاني ما يقرأ، ويعمل قدر الإمكان لتحصيل الحالات التي
يردّدها حال دعائه: (خاشعاً)، (معتذراً)، (نادماً)، (منيباً) "وَأُسْرِعَ
إِلَيْكَ فِي الْمُبادِرينَ، وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُوَّ الْمُخْلِصينَ، وَأَخافَكَ
مَخافَةَ الْمُوقِنينَ"، ملتفتاً إلى نفسه وأمراضه المهلكة، وهو في مقام
إظهارها وتعدادها لغرض المعالجة أمام الطبيب الحقيقي عزّ اسمه.
(1) عقائد الإمامية، المظفر، ص92 -93.
(2) (م.ن).
(3) شرح دعاء كميل، السبزواري.
(4) وهم الذين صدقوا في دين الله قولاً وفعلاً.
(5) شرح دعاء كميل، (م.س).
(6) يجب المحافظة على هذه الجلسة مع الله، كل يوم ولو ربع ساعة.