مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

معنى الذنب في دعاء كميل‏


الشيخ علي جابر آل صفا


يمثل دعاء كميل بن زياد النخعي عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إرثاً عظيماً عن أهل البيت عليهم السلام لما احتواه من معاني جليلة ومعارف هامة في العلاقة مع اللَّه تعالى ومع النفس، حتى صار يشكل معلماً بارزاً من معالم عظمة الإمامة وقد أثار الانتباه ما جاء فيه من ذكر للذنوب والمعاصي وطلب العفو والمغفرة، فهل أن تلك الذنوب والمعاصي قد صدرت عنه عليه السلام؟ كيف ذلك وهو الإمام المعصوم؟! وقد يجاب بأن هذا الدعاء هو دعاء الخضر عليه السلام صاحب النبي موسى عليه السلام، وقد علَّمه أمير المؤمنين عليه السلام لصاحبه كميل بن زياد النخعي. لكن هذا ليس بجواب كافٍ من جهتين:
أولاً: أن الخضر عليه السلام هو أحد الأنبياء على كل حال فكيف تتأتى منه الذنوب؟!
ثانياً: أن نظير هذه الكلمات والمعاني قد جاءت في أدعية أهل البيت عليهم السلام كالصحيفة السجادية وغيرها، فكيف يتفق ذلك مع القول بعصمتهم؟!
إنَّ هذا الأمر يدعو إلى تقديم إجابة شاملة وعميقة تتفق مع المتبنيات العقائدية في الإسلام حول المكانة الرفيعة للأنبياء والأوصياء عليهم السلام وعصمتهم.


* الأصل العقائدي في العصمة:
إن من الأصول الاعتقادية في الإسلام عصمة جميع الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، فلا يقع منهم الذنب ولا المعصية، ولا يتمكن الشيطان من التسلط عليهم أو السبيل إليهم، وبالتالي لا توجد حاجة لطلب العفو والمغفرة عن ذلك الذنب، بل إن القرآن الكريم يقدم الأنبياء عليهم السلام بأروع توصيف من الإخلاص والعبودية؛ قال تعالى في حق إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (ص: 46)، وعن يوسف عليه السلام: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (يوسف: 24)، وعن موسى عليه السلام: ﴿إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا (مريم: 51). وهذا ما يدفعنا إلى الاستبعاد الكامل للمعنى العرفي للذنب أو الظلم أو المعصية التي يمكن أن ترد عنهم في نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف، والانتباه إلى وجود معنى آخر للذنب في حقهم وطلب المغفرة والعفو.. بل إن هذا الوصف القرآني لا يجتمع بحال مع شبهات المنقصة أو سوء الأدب ونحو ذلك مما لا يعد ذنباً بالمعنى التشريعي عند الإنسان العادي، فيلزم تنزيههم عن ذلك كله.

معنى الذنب:
للذنب معنى عرفي وتشريعي واضح وهو الأمر والنهي المولوي الإلزامي، وبعبارة أخرى: فعل ما لا يجوز فعله أو يجب تركه، وترك ما لا يجوز تركه أو يجب فعله، سواء كان أمراً دينياً أو قانونياً في المجتمعات الإنسانية بعد اعتبارها له وتبانيها عليه. لكن للذنب معاني أخرى كما يقول العلامة الطباطبائي قدس سره لا بد من الالتفات إليها، ولكل معنى مغفرة بإزائه تناسبه وهي:

1 - مخالفة الأحكام العقلية في مجال الأخلاق والأحكام العملية التي تستوجب المدح والذم بنظر العقلاء، فإن العدالة والشجاعة مما تستوجب المدح، والظلم والجبن مما يستوجب الذم لدى العقلاء، وبالتالي يستوجبان نوعاً من الثواب والعقاب، والمخالفة تعد ذنباً بهذا المعنى.

2 - لا شك أن الناس تتفاوت في الفضائل والآداب بالنظر إلى الظرف الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان وقدراته وعزمه على الأمور، وهو ما يؤدي إلى التفاوت في المؤاخذة، فمثلاً لا يؤاخذ الإنسان البدوي بما يؤاخذ به الإنسان الحضري في بعض الأعمال والأخلاق، لوجود التفاوت في الفهم والعلم والأدب والطباع، ولا يطالب ويحاسب الإنسان العادي بما يحاسب به الإنسان الذكي والمتفوق، وهكذا فما يعد ذنباً بالإضافة إلى أحدهم لا يعد كذلك بالإضافة إلى آخر، وهذا المعنى العقلائي ينسحب على الأمور الدينية خصوصاً وأن مراتب الإيمان مختلفة، ومن المشهور قولهم (حسنات الأبرار سيئات المقربين). كما وإنَّ الأنبياء عليهم السلام أنفسهم يتفاوتون في المراتب والدرجات كما جاء في القرآن الكريم: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (البقرة: 253).

3 - إن الإنسان في لحظات المشاعر والأحاسيس من الحب والبغض يسلك سلوكاً خاصاً مع المباحات في الأحوال العادية، فيرى انشغاله بالطعام والشراب مثلاً عند الغضب أو الحزن قبيحاً، وفي حال العشق والوله ذنباً لأنه يشغله عن محبوبه، وإن كان الأكل والشرب في نفسه مباحاً له، بل ومضطراً إليه. وهذا المعنى ينطبق على الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وكذلك الأولياء على اختلاف مراتبهم في علاقتهم مع اللَّه سبحانه وتعالى، فيرون الانشغال بالمباحات ولو كانت ضرورية ذنباً لأنه انشغال عن المحبوب. وعلى هذا المعنى يحمل قول النبي صلى الله عليه وآله: "إنه ليغان على قلبي فأستغفر اللَّه كل يوم سبعين مرة"، وكذلك قوله تعالى للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله:﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَار (المؤمن: 55)، وقوله تعالى في حكاية دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ(إبراهيم: 41) وغيرها من الآيات. وإذا كان يصح اعتبارهم لبعض المباحات ذنباً يسألون اللَّه تعالى المغفرة عليه، فإن معنى المغفرة هنا هو إزالة الأثر التكويني الحقيقي، كما هو معناها في حق الآخرين العاديين إزالة الأثر التشريعي المترتب على الذنب وهو العقوبة. ومن هنا يصح تسمية الذنب ظلماً، حيث إن كل ذنب ظلم لأنه نقص ما وارد على النفس.

* الذنب في أدعية المعصومين عليهم السلام:
لقد جاءت في أدعية ومناجاة المعصومين عليهم السلام كلمات حول الذنب وطلب المغفرة والعفو، وهو ما طرح لدى بعض الناس شبهة حول المعنى المقصود، وهل هو ذنب حقيقة أم لا؟ لكن بالإضافة إلى تحديد معنى صحيح للذنب في حقهم يتفق مع الأصل العقائدي المتعلق بعصمة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، هناك وجوه أخرى لذلك:

أولاً: الجانب التعليمي المتعلق بكيفية الدعاء للَّه تعالى وآدابه من إظهار الخضوع والتذلل وإقامة النفس مقام المذنبين.

ثانياً: بيان أنواع الذنوب التي يتعرض لها الإنسان وآثارها على حياته في الدنيا والآخرة؛ فمن الذنوب ما يمنع الدعاء ويقطع الأمل بعفوه تعالى، وتكون سبباً لنزول المصيبة والبلاء وغير ذلك كما جاء في دعاء كميل: (اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم. اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء...). وهذه معارف حرص أهل البيت عليهم السلام على إظهارها وإبلاغها للناس وخصوصاً المؤمنين.

ثالثاً: أن تكون هذه الذنوب بمعنى ترك الأولى الذي لو فعله لاستحق عليه المزيد من الثواب، كما هو المتداول بين العديد من العلماء الذين كتبوا في تنزيه الأنبياء كالسيد المرتضى والمقداد السيوري وغيرهما. لكن هناك نقاشاً حول صحة هذا المعنى أيضاً في حق المعصومين لا مجال للتعرض له هنا.

رابعاً: أن يكون معنى الذنب في حقهم عليهم السلام ما ذكرناه في المعنى الثالث من معاني الذنب، أي الانشغال بالمباح عن المحبوب، وهو عند العرفاء والأولياء السالكين إليه تعالى الانشغال بالكثرة والماديات المباحة عن التوجه نحو المحبوب الأوحد، رغم الحاجة والاضطرار إليها بحكم الوجود في عالم الدنيا، وهو معنى يزداد كلما ارتفع العبد في درجات القرب من المولى تعالى. قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتقين في نهج البلاغة: "ولولا الأجل الذي كتب لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب". وقال عليه السلام أيضاً: "فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون". وهذا المعنى هو أدق المعاني وأوفقها بالاعتقاد وبمكانة المعصومين عليهم السلام.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع