نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

يا من اسمه دواء


الشيخ هشام شرّي

لا شكّ في أن "دعاء كميل"، الذي علّمه أمير المؤمنين عليه السلام للصحابي الجليل كميل بن زياد، مدرسة عظيمة، لطالما خرّجت عباد الله الصالحين، الذين أنسوا بترنّمه كل ليلة جمعة، ولطالما شكّل جسر عبور للتائبين إلى رحاب رحمة الله الواسعة أيضاً، ونالوا من فيضه العظيم.

يحوي هذا الدعاء من الكنوز ما لا ينضب، ومن المَعين ما لا يجفّ ولا يضمحل. وفي طيّاته لمن قرأه بقلبه وفكره مضافاً إلى لسانه، إشاراتٌ في معرفة الله تعالى والتعلّق بعزّ ربوبيّته.


* في دعاء كميل: الكمال واحد والنور واحد
"يَا مَنِ اسْمُهُ دَواءٌ وَذِكْرُهُ شِفاءٌ...". عندما يصرّح الدعاء بأن ذكر الله تعالى هو شفاء، فهذا يعني أن ذكر الله ليس طريقاً لحصول الكمال؛ بل هو "عين الكمال" بحسب العوالم والمراتب التي يتحقّق فيها. وأما اسم الله فهو دواء "يَا مَنِ اسْمُهُ دَواءٌ"؛ أي هو الوسيلة التي يتحقّق من خلالها ذكر الله تعالى، فأسماء الله تعالى ليست شيئاً إضافياً أو جزءاً تتشكّل منه الذات الإلهيّة؛ لأنّ الله تعالى أحدٌ صمد غير مركّب، وإنّما هي أبواب يدخل من خلالها العبد إلى ساحة ذكر الله تعالى. وما تنوّع الأسماء وتكثّرها إلا بسبب تنوّع القابليات وتكثّرها، فالذي يلتفت إلى فقره يحصل لديه ذكر الله تعالى، لكونه الغنيّ، والذي يلتَفت إلى ضَعفه يحصل لديه ذكر الله تعالى لكونه القويّ، والذي يلتفت إلى ذُلّه يحصل لديه ذكر الله تعالى لكونه العزيز... وإلّا فالكمال واحد والنور واحد والفيض واحد.

* ساحة أسماء الله
ما دام الإنسان فقراً محضاً وحاجة دائمة، فلن يجد شيئاً يمكن أنْ يحقّقه أو أنْ يقوم به بمعزل عن الله تعالى وبدون توفيق منه سبحانه، لذلك نجد في دعاء كميل "وَبِأَسْمائِكَ الَّتي مَلأَتْ أَرْكانَ كُلِّ شَيء". فركن البناء هو الزاوية التي يستند إليها البناء ويقوم بها، فكلّ ما هو قائم ومتحقّق ليس سوى مظهر من مظاهر أسماء الله تعالى، فما هي هذه المظاهر والأمور التي ملأتها أسماء الله تعالى؟ نشير فيما يلي إلى بعض ما ورد منها في دعاء كميل:

1- العباد وترميم نقصهم وذنوبهم:

فشوائب الذنوب والعيوب هذه، التشريعيّة منها والتكوينيّة، تقابلها أسماء الله تعالى من جهات ثلاث:
أ- ستّار عيوب القبائح عن الخلق: حيث يقول في الدعاء: "وَلا لِقَبَائِحِي سَاتِراً... غيرك"، "وكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرَائِهِمْ وَالشَّاهِدَ لِمَا خَفِيَ عَنْهُمْ وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ". ولا ينحصر القُبح بمخالفة الشرع والانحراف عن جادة الحق، بل حتّى مَن التزم جادّة الحق لا يخلو عمله من قبح ناتج عن الجهل الذي قد يرفع التكليف، ولكنّه لا يرفع الآثار الطبيعيّة والتكوينيّة للسلوك، وقد يكون قبحاً خَلقياً له علاقة بعوارض الجسم... كلّ هذه العيوب التي لا حَصر لها تُسقط الإنسان من أعين الخَلق وتجعله وضيعاً ذليلاً أمامهم لو اطلعوا عليها، فهو بحاجة ماسّة إلى من يستر عليه هذه العيوب.
يأخذنا دعاء كميل إلى هذا الاسم الإلهي العظيم (ستّار العيوب) الذي لم يكتفِ بسترها عن عيون البشر، بل إنّه يسترها حتّى عن الملائكة الموكلين بحفظ أعمال العباد!

ب- غفّار الذنوب: "لا أَجِدُ لِذُنُوبِي غَافِراً... غيرك".

إنّ الذنوب، سواء كانت ذنوباً عن تقصيرٍ يستحقّ المذنب عقاباً على فعلها أو كانت ذنوباً عن قصور نتيجة ضعف قابليّة الإنسان، وتدرّجه في مراتب الكمال، وهذه الأخيرة وإنْ كانت لا تستوجب عقاباً لكنّها تبقيه بعيداً عن ساحة القرب الإلهي، لا يمكن تجاوزها والشفاء منها إلا باللجوء إلى "الغفّاريّة".
ج- مبدّل القبيح حسناً: "ولا لِشَيْ‏ءٍ مِنْ عَمَلِيَ الْقَبِيحِ بِالْحَسَنِ مُبَدِّلا غَيْرَكَ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ".
الستر والغفران أمران مهمّان وضروريّان جداً، ولكن الفضل الإلهي لا يتوقّف عند هذا الحد، فستر العيوب رغم ضرورته وأهميّته إلّا أنّه لا يغيّر حقيقة وجودها، وغفرانها لا يتجاوز مَحوها، فلا يطالب بها، ولكن أن تتبدّل النقائص إلى كمالات والعيوب إلى جمال، هذه هي النعم الإلهيّة بأبهى صورها. يعلمنا دعاء كميل كيف نتوجه إلى الله تعالى ليبدّل القبح إلى الحسن.

2- فقر العباد وضعفهم:

على الإنسان أن يطوي مسيرة تكامله من جهة، وأن يلبّي حاجاته العمليّة والطبيعيّة من جهة أخرى، حيث تقابلها أسماء الله من جهات عدّة، نشير إلى بعضها:

أ- سَعة عطفه ورحمته: "وَعَلَيَّ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ عَطُوفاً".

هذا المقطع يشير إلى أنّ الحاجة إلى عطف الله تعالى ورحمته لا تنقطع ولا تنحصر في أمر دون غيره، بل الإنسان بحاجة إلى عطف الله تعالى في جميع أموره كبيرها وصغيرها؛ لأنّ مالك الأمر الكبير هو نفسه مالك الأمر الصغير، ولو خلِّينا وأنفسنا فإننا لا نقدر على أصغر الأمور، "يَا إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَمَالِكَ رِقِّي يَا مَنْ بِيَدِهِ نَاصِيَتِي". فالإنسان مملوك لغيره ذاتاً، فما دام مملوكاً ذاتاً وضعيفاً كذلك فهو بحاجة إلى من يستند إليه، وليس هناك إلّا الله تعالى مالك كلّ مملوك.

ب- لطفه ورعايته: "وَكُنِ اللّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لِي فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ [فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا] رَؤوفاً".

يعني هذا الكلام أنّ الإنسان يعاني من مشكلة أخرى وهي تبدّل الأحوال، فالإنسان قد يكون قادراً -بما أولاه الله تعالى- على التأقلم مع بعض الظروف المحيطة والالتفات إلى مخاطرها ومواجهة شراكها ومكائدها، ولكنّ كثرة الأحوال وتبدّل الظروف قد تجعله غير قادر على التأقلم معها، ومعرفة مكامنها، وبالتالي يفقد القدرة على القرار الحكيم والسلوك المستقيم عند عروض هذه العوارض. وهنا تأتي لتُدركنا رأفة الله تعالى، الرؤوف بعباده، فيجعل تغيّر الأحوال وقسوتها ضمن حدود وانسياب يسهل على الإنسان التعامل معها، ولولا هذا اللطف الإلهي لأخذتنا الأرض من تحتنا والسماء من فوقنا وما كان لنا إلّا الذهول والضياع!

3- علمه بفقر العباد وخاصّتهم:
إنّ الجهل من أعظم مصائب الإنسان في الدنيا، حيث يشتبه بين ما فيه مصلحتـه وما فيه ضرره، فيستجــلب الضــرر وهو يحسبـه مصلــحة وغنيمة! ومن جهة أخرى، يشتبه في معرفة نفسه، فيتصوّر نفسه غنياً غير محتاج، فيصاب بالعجب والتكبّر، ويصل إلى الطغيان ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق : 6-7)، فعلى الإنسان أن يلتفت إلى جهله، ويلجأ إلى العالم الذي لا يعزب عن علمه شيء، ويتوسّل إليه، ويتوكّل عليه، ليدفع كلّ ضرّ وفاقة، من خلال البصيرة وغيرها من التوفيقات "يَا عَلِيما بِضُرِّي [بِفَقْرِي‏] وَمَسْكَنَتِي يَا خَبِيراً بِفَقْرِي وَفَاقَتِي".

* حيث تشرق أسماء الله في القلوب الداعية
على الإنسان أن يختار اللجوء إلى هذه الأسماء، واستحضارها في قلبه، والتمسّك بها، لتكون شفاء يوصله إلى ذكر الله تعالى، وهذا الاختيار يأتي من خلال شرطين أساسيّين مذكورَين في دعاء كميل:

الأول: "يَا نُورَ الْمُسْتَوْحِشِينَ فِي الظُّلَمِ". فالنور الإلهي يُدرك من استوحش من ظلمات المعاصي فنفرَ واشمأزّ قلبه منها. أمّا من أنس بالمعاصي وأقبل بجوارحه وجوانحه عليها، وتعلّق قلبه بها، فلن يكون محلاً لنور أسماء الله تعالى.

الثاني: "لَكِنَّكَ تَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُكَ"
فما دامت الأسماء مقدّسة فهي تحتاج إلى جهة طهارة في القلوب، يمكن أن تشرق من خلالها، لا أقلّ من طُهر التوجّه القلبي الصادق إلى أسماء الله تعالى، فإنه تعالى سيقابله بالرضا السريع "يَا سَرِيعَ الرِّضَا" والرحمة والتوفيق "ارْحَمْ مَنْ رَأْسُ مالِهِ الرَّجاءُ وَسِلاحُهُ الْبُكاءُ"، ويدفع عنه النواقص ويمده بالكمالات "يَا سَابِغَ النِّعَمِ يَا دَافِعَ النِّقَمِ".

فإذا تحقّق هذان الشرطان، ستشرق أسماء الله الحسنى في قلب الداعي، وتأخذ بيده لتدخله في ركب هداة قافلة دعاء كميل "أَتُسَلِّطُ النَّارَ... عَلَى قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بِإِلَهِيَّتِكَ مُحَقِّقَةً، وَعَلَى ضَمَائِرَ حَوَتْ مِنَ الْعِلْمِ بِكَ حَتَّى صَارَتْ خَاشِعَةً".
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع