الشيخ أحمد وهبي
إذا رجعنا إلى القرآن وروايات أهل البيت عليهم السلام نجد
أنّه قد ذُكرت أخلاق خاصّة بالمجاهد يجب أن يلتزم بها، من خلال العمل بالأحكام
والأخلاق الإلهيّة ليكون جهاده في "سبيل الله" حقّاً، ومحقّقاً الغاية الإلهيّة
منه. قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
(العنكبوت: 69). لذلك سنعمل في هذا المقال على عرض
الأخلاق التي ذكرها القرآن وأهل البيت عليهم السلام في خصوص المجاهدين في سبيل الله
-عزَّ وجلّ-.
* اشترى الله منهم أنفسهم
روى أبو حمزة الثماليّ قال: قال رجل لعليّ بن الحسين عليهما السلام: أقبلت على
الحجّ وتركت الجهاد فوجدت الحجّ ألين عليك والله يقول:
﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم﴾،
فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: "اقرأ ما بعدها"، قال: فقرأ:
﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ
الْحَامِدُونَ﴾ إلى قوله:
﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله﴾،
فقال عليّ بن الحسين عليهما السلام: "إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئاً"(1).
فبيَّن الإمام عليه السلام أنَّه إذا توفَّر لديه من اجتمعت فيهم هذه الأوصاف
فإنَّه سيتوسَّل الجهاد ويقوم به، ولو كان عددهم قليلاً، كما جاء في بعض الروايات.
ولذلك ينتظر إمامنا المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف المجاهدين حاملي هذه
الأوصاف، ليقوم بأمر الله، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
* من أخلاق المجاهد في نفسه
1- النيّة الخالصة لله
النيّة هي مصدر العمل وأساسه ومنطلقه وعلى أساسها تكون النتيجة والآثار.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَمّا أغزى علِيّاً عليه السلام
فيِ سَرِيَّةٍ، فقالَ رجُلٌ لأخٍ لَهُ: اُغْزُ بِنا في سَرِيّةِ علِيٍّ لَعلَّنا
نُصيبُ خادِماً أو دابَّةً أو شَيئاً نَتَبَلَّغُ بهِ، قال: "إنّما الأعمالُ
بالنِّيّاتِ، ولكُلِّ امرئٍ ما نَوى، فمَن غَزا ابتِغاءَ ما عِندَ الله فَقد وَقَعَ
أجرُهُ علَى الله، ومَن غَزا يُريدُ عَرَضَ الدُّنيا أو نَوى عِقالاً لَم يَكُن
لَهُ إلّا ما نَوى"(2).
2- التوجّه للآخرة والزهد بالدنيا
قال تعالى:
﴿إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله
فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).
فالآية تبيِّن أنّ الله سبحانه قد طلب الجهاد ممّن باع دنياه بآخرته، لأنّه ما
يحقّق الهدف الإلهيّ من الجهاد، سواء كان النصر أو الشهادة، وهو الذي يصبر عليه
ويثبت فيه.
3- الحبّ لله
الإنسان يحبُّ الكمال المطلق، لذلك يرى في الله كلَّ ما يحبُّه من كمالاتٍ يعشقها
ويشتاق إليها، فيحبُّ الله سبحانه، ويسعى للوصول إليه ولقائه بالشهادة بالجهاد في
سبيله. عن الإمام الصادق عليه السلام: "بإنفاق المُهَج يصل العبد إلى برّ حبيبه
وقربه"(3).
4- العبادة والعبوديّة
يُشغل المجاهد وقته بالعبادة والذكر، استعداداً للقاء الله -عزَّ وجلّ- وتظهر عليه
سيماء العابدين بسبب عبادته في الليل. يقول الله تعالى:
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنجِيلِ﴾ (الفتح: 28).
5 - حفظ حدود الله
قال تعالى:
﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله﴾ (التوبة: 112). إنّ حفظ حدود الله سبحانه، واجتناب
المحرّمات وإتيان الواجبات الإلهيّة من الصفات الملازمة للمجاهد، كيف لا، وهو الذي
التزم بتكليف الجهاد الذي يفضي إلى القتل؟! فكلّ ما سوى ذلك يكون أهون عليه، ومع
عدم الالتزام بذلك لا يكون مجاهداً؛ لأنّ الجهاد اجتناب المحارم ومجاهدة العدوّ كما
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "يقول الرجل: هاجرت ولم يهاجر، إنّما المهاجرون
الذين يهجرون السيّئات ولم يأتوا بها، ويقول الرجل: جاهدت ولم يجاهد، إنّما الجهاد
اجتناب المحارم ومجاهدة العدوّ"(4).
6 - التقوى
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة
أوليائه، وهو لباس التقوى"(5). فالجهاد هو لباس المتّقين والتقوى لباس
المجاهدين؛ لأنّ التقوى حصن للإنسان المؤمن المجاهد. عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"التقوى حصن المؤمن"(6)؛ بل هي كما روي عنه عليه السلام: "التقوى أوفق
حصن وأوقى حرز"(7). فكما إنّ المجاهد يتحصّن بالحُفر والمتاريس، كذلك هو يتحصّن
بالتقوى، التي هي أقوى حصن؛ لأنها اعتصامٌ وتحصُّنٌ بالله.
7- النظم والانضباط
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ (الصف:4).
الجهاد والقتال يحتاجان إلى حالةٍ من النظم الشديد، والانضباط والالتزام بالأوامر
والإرشادات، كي تستطيع هذه القوّة المقاتلة أن تنسجم في حركتها دون تشتّت وتشرذم
وضياع، ما يؤدّي إلى هزيمتها. وهذا الأمر يجب أن يكون نابعاً من الإيمان بالله
والالتزام بأوامره -سبحانه-، وبهذا المعنى يكون من لوازم التقوى، لذلك جاء في وصيّة
أمير المؤمنين عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام: "أوصيكما وجميعَ
ولدي وأهلي ومَن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم..."(8).
8 - الصبر
الهداية من نتائج الصبر على المصائب، فالله يربّي عبده المؤمن بالمصائب والبلاء، أو
يصفّيه بها، أو يرفع درجته بها، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ
الله ليغذّي عبده المؤمن بالبلاء كما تغذّي الوالدة ولدها باللبن"(9)، فيختار
الشهداء من الصابرين.
* ثانياً: أخلاقيات المجاهد في المجتمع الإسلاميّ
1 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
﴿الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
يصف الله -عزَّ وجلّ- المجاهدين الذين يمكِّنهم في الأرض، ويتولون أمور الأمّة
وولايتها، بإذن الله، بأنّهم يحيون أمر عبادة الله -سبحانه- ويعملون على تأمين
إمكانات رقيّ المجتمع الإسلاميّ من خلال الزكاة، ويعملون على هداية أفراد المجتمع
من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتولّون هداية بعضهم بعضاً...
من هنا، يظهر أنّ الجهاد ليس هدفه القتال فقط، بل هدفه الأمر بالمعروف وهداية خلق
الله. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْجِهَادِ، الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ
بِقُلُوبِكُمْ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ مَعْرُوفاً ولَمْ يُنْكِرْ
مُنْكَراً، قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ"(10)، وعنه عليه السلام:
"... والجهاد على أربع شعب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن
وشنآن الفاسقين..."(11).
2- التذلّل للمؤمنين
يقول الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن
يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ
الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54).
يقف المجاهد أمام الناس موقف الخادم الذليل المتواضع الذي يسعى دائماً إلى تأمين
سعادتهم وتلقّي أوامرهم، دون التعالي عليهم. وهذا ما وصف الله سبحانه به المجاهدين
الذين يحبُّهم ويحبُّونه، لأنّهم هم الذين يضحُّون بأنفسهم وبأغلى ما عندهم في سبيل
المؤمنين، ويقومون بأعظم خدمةٍ لهم.
3 - المحافظة على أموال الناس وأرواحهم وأعراضهم
كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام دائماً يوصيان
المجاهدين بحفظ أموال الناس وحقوقهم وأعراضهم، فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام
قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم
فأجلسهم بين يديه ثمّ يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول
الله، لا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا
تقطعوا شجراً إلّا أن تضطروا إليها..."(12).
ورُوي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال لجيشه في صفّين: "إنّ الله -عزَّ
وجلّ- دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم... ولا تمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى
رجال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما
وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأةً بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم
وصلحاءكم..." (13).
* ثالثاً: أخلاقيات المجاهد مع الأعداء
1 - الشدّة في القتال
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (التوبة: 73 والتحريم: 9).
يأمر الله -سبحانه- نبيّه الذي هو رحمة للعالمين، أن يكون مع الكفّار والمنافقين
شديداً وقاسياً في سبيل إزالة الظلم والكفر والنفاق من الأرض، لما يسبّب من ضرر على
المجتمعات، لذلك يكون هذا القتال رحمة، ويأمر المؤمنين أيضاً بذلك:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً
وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 123).
2- أخلاقه مع المجتمع المعادي
هذا مع المقاتلين المحاربين، أمّا مع أفراد المجتمع المعادي فقد حرّم الله -عزَّ
وجلّ- التعدّي عليهم، وأمر بالالتزام بالأحكام الشرعية معهم، وعدم التعدّي على
النساء والأطفال والشيوخ والأراضي والأشجار، دون مسوّغ لذلك. والروايتان اللتان
مرَّ ذكرهما في العنوان السابق تشيران إلى ذلك أيضاً.
3 - الرأفة بالأسير
إنّ الأسير الذي كان يحارب المسلمين، عندما يدخل في حيِّز الإسلام يكون التعامل معه
برحمة الإسلام، فلا يعامله المجاهد بانتقام شخصيّ، إنّما بالأسلوب الإلهيّ، لأنّ
الإسلام هو دين الرحمة، فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "الأسير
طعامه على من أسره حقّ عليه وإن كان كافراً يقتل من الغد، فإنّه ينبغي أن يَرؤُفَه
ويُطعمه ويَسقيه"(14).
4- الثبات في المعركة
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً
إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ﴾ (الأنفال: 15 - 16). إنّ المجاهد في سبيل الله -سبحانه-
الواعي العارف المخلص لا يولي ظهره لعدوّه ويهرب، ولا يترك إخوانه في المعركة
مكشوفين للعدوّ، بل يواسيهم بنفسه ويصبر معهم، فالموت ملاقي الإنسان مهما هرب منه،
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "رحم الله امرءاً واسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه
إلى أخيه... وهذا فمن يفعله يمقته الله... وقد قال الله عزَّ وجلّ:
﴿لن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن
فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا
قَلِيلًا﴾ (الأحزاب: 16)..."(15).
1- تهذيب الأحكام، الطوسي، ج6، ص134.
2- الأمالي، الطوسي، ص618.
3- جامع أحاديث الشيعة، البروجردي، ج13، ص16.
4- مستدرك سفينة البحار، النمازي، ج10، ص488.
5- نهج البلاغة، الخطبة 27.
6- غرر الحكم، الحكمة 1046.
7- (م.ن)، الحكمة 1128.
8- نهج البلاغة، (م.س)، الكتاب 47.
9- بحار الأنوار، المجلسي، ج78، ص295.
10- نهج البلاغة، (م.س)، من كلام له عليه السلام 375.
11- الخصال، الصدوق، ص232.
12- الكافي، الكليني، ج5، ص27.
13- (م.ن)، ص36.
14- (م.ن)، ص35.
15- (م.ن)، ص40.