الشيخ محمد خاتون
قال تعالى:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ
﴾ البقرة/186. لقد شكَّل الدعاء على مر الأزمنة، وعلى ظرف طول رسالات
الأنبياء عليهم السلام الباب العظيم لمناداة الله سبحانه وتعالى واستمطار رحمته في
الدنيا وفي الآخرة، ولم يكن هذا الدعاء ليُتركَ للإنسان أن يصوغه، لأن الله سبحانه
وتعالى يحب أن يدعى من خلال الأوصاف التي وصف بها نفسه في كل رسالات الأنبياء عليهم
السلام، ولقد شكل المخزون العظيم والهائل الذي حفظه أهل بيت النبوة عليهم السلام
منعطفاً أساسياً في تاريخ الفرد والأمة على حد سواء في الطريق إلى الله سبحانه
وتعالى، ولقد أخذ دعاء كميل على طول رحلة الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ميداناً
كبيراً للمعرفة العقلية التي تأخذ بيد الإنسان للوصول إلى الله تعالى، ولم تكن لهذه
الكلمات، التي فاضت من قلوب الأولياء ومن سيدهم أمير المؤمنين عليه السلام مجرد
إيقاعات لها علاقة بالمعنى والمبنى وإنما كان لها انعكاسات قلبية جعلت فعلا من هذا
الدعاء باباً عظيماً للدخول إلى عالم الملكوت وذلك بالنظر إلى القيمة المعرفية التي
يحملها من جهة، وإلى الآداب التي ينبغي على الإنسان أن يتأدّب بها عندما يواجه ربَّ
الأرباب ومن بيده ملكوت كل شيء.
ونقف عندما يشكله هذا الدعاء على المستويين اللذين ذكرا في بداية الكلام: مستوى
القيمة المعرفية ومستوى الأدب والآداب مع الله سبحانه وتعالى. فعلى المستوى الأول
في مجال المعرفة فإنه ينتقل بنا من وصف إلى آخر من أوصاف الله تعالى. صحيح أن صفات
الله هي عين ذاته وكلها يرجع إلى اسم الجلالة المقدس غير أن هذه المعرفة وهذا
الإيمان، وهذا اليقين بتلك الذات يتم بالنسبة إلينا من خلال توسط هذه الصفات
الجمالية والجلالية على السواء من الرحمة التي وسعت كل شيء إلى القوة التي قهر بها
الله عزَّ وجلَّ كل شيء، إلى العزة التي لا يقوم لها شيء، وإلى مختلف أسماء الله
الحسنى والتي هي الكمال في كل شيء بحيث يقف الداعي بهذه الأسماء الحسنى أمام مفتاح
الآخرة والدنيا ومن إليه المعاد والمبدأ. وعلى هذا المستوى أيضاً، يوضح لنا هذا
الدعاء الشريف، مسألة عقائدية وهي أن الخير كل الخير، هو من الله سبحانه وتعالى،
وأن الشر إنما هو من الإنسان، وهذه معرفة بيَّنها الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه
وفي أكثر من آية ولكن عندما يقرأها الإنسان بلسان الداعي إلى الله عزَّ وجلَّ فإنه
عندئذ سوف يقف أما الله عزَّ وجلَّ وقفة ذلك الإنسان الذي لا يمتلك شيئاً على مستوى
القيمة وإنما القيمة هي لله سبحانه وتعالى وهو مصدر الخير، والإنسان هو مصدر هذه
الشرور عندما لا يلتفت إلى الله سبحانه وتعالى، وعندما يوكل إلى هذا الإنسان أن
يدير نفسه بنفسه، فإنه سوف يقع في مهاوي الفساد والرذيلة، وهذا ما يمكن أن نلاحظه
في مختلف مقاطع هذا الدعاء الشريف منذ البداية وفي نهاية هذا الدعاء أمير المؤمنين
عليه السلام يخاطب الله تبارك وتعالى بأنه هو صاحب الصفات الجمالية والجلالية التي
من خلالها تحصل عملية الثواب والعقاب وأن هذا الإنسان لا يملك إلا الدعاء وأن الله
سبحانه وتعالى هو فعال لما يشاء.
وعلى مستوى الأدب مع الله سبحانه وتعالى، فإننا نجد أمير المؤمنين عليه السلام
يخاطب الله تبارك وتعالى بهذه المواصفات التي لا يمتلك العبد شيئاً منها على
الإطلاق، لأن العبد هو الفقير والله تعالى هو الغني، فالله غني عن كل أحد، والعبد
الفقير هو المحتاج إلى الله سبحانه وتعالى في كل جزئية من جزئيات الحياة. في بداية
هذا الدعاء هناك مواصفات إلهية ينبغي على الإنسان أن يذكرها حتى يدخل إلى ذلك
الميدان الذي يجد نفسه فيه لا يملك شيئاً أمام ذلك الإله الذي يمتلك كل شيء وهنا
يبدأ الدعاء الحقيقي، فإن الدعاء كما يعرف في اللغة وفي الاصطلاح ليس هو عبارة
عن مخاطبة جهة لأخرى مساوية أو أدنى منها وإنما الدعاء هو خطاب الداني إلى العالي
وليس هناك أدنى من الإنسان بالشيطان الذي يعتريه وبالنفس الأمارة بالسوء التي تزين
له الأشياء أمام الله سبحانه وتعالى الذي بيده الأشياء كلها. ثم كان لا بد أمام
وقفة الضعيف أمام القوي من الاعتراف، فإن الإنسان إذا وجد نفسه ضعيفاً أمام قوي من
الأقوياء فإنه سوف يعترف له بضعفه، فكيف إذا كانت هذه الوقفة هي وقفة الضعيف بكل
معنى الكلمة أمام القوي الذي لا يحيط شيء على الإطلاق بقوته. وهذا ما يجعل أمير
المؤمنين عليه السلام يبكي بكاء الثكلى وهو يتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ولذلك كان
لا بد أن يكون ذلك الاعتراف منطلقاً من حالة حقيقية وليس من حالة إدعائية فإن
الإنسان ينبغي عليه أن يتذلل، وينبغي عليه أن يقف هذه الوقفة التي ملؤها الخشوع
والخضوع وهذا يعبر عنه أمير المؤمنين عليه السلام "اللهم إني أسألك سؤال خاضع متذلل
خاشع أن تسامحني وترحمني وتجعلني بقسمك راضياً قانعاً وفي جميع الأحوال متواضعاً"
ثم بعد ذلك وفي نفس هذه الدرجة من الأدب مع الله تبارك وتعالى يبدأ أمير المؤمنين
عليه السلام بذكر ما مرَّ في تاريخ بني البشر عندما سكنوا إلى أنفسهم وإنما سكنوا
إليها لحسن ستر الله سبحانه وتعالى حيث أنه لم يفضحهم في دنياهم فكان هذا مدعاة
لهؤلاء البشر لأن يقولوا ما قالوه ولأن يفعلوا ما فعلوه، وكان الله سبحانه وتعالى
للإنسان في كل مرحلة من المراحل نعم الغافر ونعم الساتر وفي نفس الوقت نعم المعين
له على أن يتجاوز هذه الزلة ليصل إلى جادة الطريق ولكن، هل أن النفس الأمارة بالسوء
سوف تقف أمام الجميل العظيم الذي قدمه الله سبحانه وتعالى موقف الشاكر؟ أبداً فإن
هذه النفس سوف تقول لهذا الإنسان لا عليك أقدم إلى المعصية طالما أن الستر من الله
سبحانه وتعالى سوف يستمر ويستمر إلى ما لا نهاية.
وسوف يقع الإنسان في معصية بعد أخرى لا يملك في الحاضر إلا شيئاً واحداً وهو الدعاء
لله سبحانه وتعالى وهذا ما عبَّر عنه أمير المؤمنين عليه السلام "فأسألك بعزتك
أن لا يحجب عنك دعائي سوء عملي وفعالي ولا تفضحني بخفي ما اطلعت عليه من سري ولا
تعاجلني بالعقوبة على ما عملته في خلواتي". إنها كلمات الإنسان الذي يريد
الالتحاق فعلاً بركب الأولياء ولا يريد أن تكون هذه الكلمات التي ترددها السنة
الناس في مختلف الأوقات مجرد لقلقة لسان وإنما هي كلمات تنبع من ذلك القلب الذي كاد
أن يقتله الذنب ليصل هذا القلب من خلال مرحلة الاعتراف إلى مرحلة الاستعطاف، حيث
أنه بعد الاستعطاف من قبل ذلك العقاب لا بد من الاستجابة من قبل الله سبحانه
وتعالى، وماذا يملك الإنسان بعد هذا من أشياء يستحق فيها المغفرة ليس هناك شيء يجعل
من هذا الإنسان مستحقاً للمغفرة الإلهية وإنما المغفرة من الله عزَّ وجلَّ هي تفضل
ورحمة من الله عزَّ وجلَّ وليس الإنسان في خضم الذنوب هو ذلك المخلوق الذي يستحق أن
ينظر إليه كرم الله سبحانه وتعالى، ولكن ثمة أشياء يمكن للإنسان أن يتملكها ليدخل
من خلالها إلى باب الرحمة الإلهية والتفضل الإلهي وهو أن يجعل من هذا الجسد بشكله
الخارجي جسداً عابداً لله سبحانه وتعالى، ومن ذلك القلب قلباً ناطقاً ومفكراً بحب
الله تعالى، ومن تلك الجوارح جوارح تسعى إلى إرضاء الله تعالى على المستوى الظاهري
والله سبحانه وتعالى إذا لم يكن يقبل هذه الأفعال التي تقوم بها هذه الجوارح
والقلوب فإنه سوف تشملها تلك العناية الإلهية، لا لأنها تستحق وإنما لأن الله تبارك
وتعالى هو أهل للجود والكرم.
ثم إذا نظرنا إلى نهايات هذا الدعاء الشريف فإننا نجد مسألة في غاية الأهمية وذلك
لأن أمير المؤمنين عليه السلام الذي دخل إلى هذا الدعاء من باب الرحمة والقوة
ومختلف المواصفات الإلهية ثم بعد ذلك جعل هذه النفس الأمارة بالسوء تعترف في نهاية
المطاف بكل ما اقترفته وما فعلته في نهاية هذا الدعاء الشريف، يرجع إلى الله سبحانه
وتعالى لأنه وحده عزَّ وجلَّ هو الذي يمكن له أن يمن على العباد برحمة ومغفرة ولأن
الإنسان في طوال رحلته إلى الله سبحانه وتعالى قد تأخذه مجموعة من الأوهام فيتصور
هذا الإنسان أن الله عزَّ وجلَّ سوف يدخل كل الناس إلى رحمته، أليس هو الرحمن
الرحيم؟ بل صحيح ولكن الله تبارك وتعالى وصف نفسه بالحكيم، والحكيم هو الذي يضع
الأشياء في مواضعها فطالما أن هناك سوءاً يصدر من هذا الإنسان فلا بد من عقوبة،
وطالما أن هناك أشخاصاً يقاتلون دعوة الله سبحانه وتعالى فلا بد أن يكون هناك نار،
وهذه النار التي وعد الله سبحانه وتعالى بها الكافرين والعاصين، فليس الداعي في
مقام ذلك الإنسان الذي دخل إلى الجنة وهو يرى الآخرين يدخلون إلى النار وإنما
الداعي لله سبحانه وتعالى هو ذلك الإنسان الذي يوشك عمله أن يدفع به إلى قعر جهنم
وهو يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى أن يشمله بعنايته وبرحمته وماذا يملك هذا الإنسان
في هذه الحياة؟ لا يملك إلا شيئاً واحداً وهو أنه فقير، مسكين. الإنسان الذي ملَّكه
الله سبحانه وتعالى هذا السلاح العظيم وهو سلاح الدعاء فإن هذا السلاح الذي نمتلكه
ننطلق في رأس ماله من خلال موقف الخوف والفقر والمسكنة لأنه كلما شعر الإنسان
بحقارة نفسه وذلها وبفقره ومسكنته أكثر واعترف بذلك سوف ينعكس في قلبه تواضعاً لله
سبحانه وتعالى وهنا عندئذ يستجاب دعاؤه.
عندما نصل إلى الخاتمة التي من خلالها يختم أمير المؤمنين عليه السلام هذا الدعاء
المبارك فإنه يعود إلى المسألة الأولى بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يفعل الأشياء
ويقدرها وهو الذي خلقها فليست هذه القيم التي ينظر إليها الإنسان ويحاول قدر
استطاعته أن يجعل نفسه في مقام العابد لله سبحانه وتعالى ليست إلا طريقاً إلى الله،
وعلى الإنسان أن ينطلق من بداية الطريق حتى يختم حياته وهو متذلل خاشع لله
سبحانه وتعالى عسى الله أن يعفو عنه وكان هذا الأمل الذي يملأ قلب الإنسان هو رأس
المال الحقيقي الذي من خلاله يتوجه الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى.