*في جودة انتخاب الألفاظ
نَزل بدويّ على قومٍ في ضواحي الشام فأكرموه. ولمّا أزمع على السفر وقف يمدح أميرهم
فقال:
أنت كالدلو لا عدمناك دلواً | من كثير العطا قليل الذنوبِ |
أنت كالكلب في الحفاظ على الودّ | وكالتيس في قِراع الحروبِ |
فهمَّ أصحاب الأمير بقتله، فقال لهم: خلُّوا عنه. لقد والله مدحني بخير ما وصل إليه علمه، إنّه لا يعرف أوفر من الدلو عطاءً وأقلَّ ذنباً، ولا آمن من الكلب وأصفى ولاءً ولا أمثل من التيس في الرئاسة، فشبّهني بأفضل ما يعرف، فلا لوم عليه.
وأقام بينهم ردحاً من الدهر فتخلّق بأخلاقهم وزالت من طبعه خشونة البادية، فإذا
بأبيات رقيقة رائعة تنتشر بعد حين وتنسب إليه:
يا من حوى ورد الرياض بخدّه | وحكى قضيب الخيزران بقدّهِ |
دعْ عنك ذا السّيف الذي جرّدته | عيناك أمضى من مضاربِ حدّهِ |
كلّ السيوف قواطعٌ إنْ جُرّدتْ | وحسام لحظك قاطعٌ في غمدهِ |
إن شئت تقتلني فأنت محكَّمٌ | من ذا يعارضُ سيداً في عبدهِ |
*من علم الإمامة
لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته أُمّ الفضل أبا جعفر محمد بن عليّ الجواد عليه
السلام بلغ ذلك العباسيّين فغلظ عليهم ذلك، واستنكروا منه، واجتمع رأيهم على مسألة
يحيى بن أكثم - وهو يومئذٍ قاضي الزمان - على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها.
وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع فأجابهم إلى ذلك، وحضر معهم
يحيى بن أكثم، وخرج الإمام أبو جعفر عليه السلام وهو يومئذٍ ابن تسع سنين وأشهر.
فاستأذن يحيى بن أكثم المأمون في سؤال الإمام عليه السلام، فأجابه.
فقال يحيى: ما تقول -جُعلت فداك- في محرمٍ قَتَلَ صيداً؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المُحرم أو
جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟
مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم
من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار؟
محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟
فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتّى عرف أهل المجلس
عجزه.(1)
*مفاكهة الأدباء
قال الصاحب بن عبّاد لأحد ندمائه عندما رآه متغيّر السحنة: ما الذي بك؟
قال: "حما".
قال له الصاحب: "قِهْ" [أي اتّقِها].
فقال له النديم: "وه".
فلقد أحسن الصاحب في تعقيب لفظة "حما" بما صارت به "حماقة"، ولطَّف النديم في صلة
تعقيبه "وه" بما جعلت "قهوة".
*من قصص الأمثال "سبق السيف العذل"
كان لرجلٍ من الأعراب - اسمه ضبّة - ابن يقال له سعيد، فلقيه الحارث بن كعب وكان
على الغلام بُردان [البُرد: الثوب المخطّط]، فسأله الحارث إيّاهما فأبى عليه فقتله
وأخذ بردَيْه. وكان أن حجّ ضبّة فوافى عُكاظ فلقي بها "الحارث بن كعب" ورأى عليه
برديْ ابنه سعيد، فعرفهما فقال له: هل أنت مخبري ما هذان البردان اللذان عليك؟
قال: لقيت غلاماً وهُما عليه، فسألته إيّاهما فأبى عليَّ فقتلته وأخذتهما.
فقال ضبّة: بسيفك هذا؟
قال: نعم.
قال: أرنيه فإنّي أظنّه صارماً، فأعطاه الحارث سيفه، فلمّا أخذه هزّه وقال: الحديث
ذو شجون. ثمّ ضربه به فقتله. فقيل له: يا ضبّة، أفي الشهر الحرام؟
قال: سبقَ السيفُ العذلَ [العتب واللوم].
*من أجمل الردود: "ما طريقي على النار"
قيل: إنّ سبب موت "ابن الروميّ" الشاعر المشهور أنّ الوزير "أبا الحسن القاسم بن
عبيد الله بن سليمان بن وهب" وزير المعتضد كان يخاف من هَجْوه، فدسّ عليه ابن فراس،
فأطعمه فطيرة مسمومة وهو في مجلسه، فلمّا أكلها ابن الروميّ أحسّ بالسمّ فقام، فقال
له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعَثْتني إليه، فقال له: سلّم على
والدي، فقال: ما طريقي على النار، وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أياماً ومات.
*من بلاغة القرآن الكريم
ورد في القرآن الكريم حكايةً عن لسان نبيّ الله يوسف الصدّيق قوله لوالده عليه
السلام:
﴿يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ
عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف: 4)، ولم تذكر الآيات أنّ يعقوب عليه السلام قد فسّر
له منامه، بل حذّره من إخبار إخوته به فقط.
لكن الآية تشير إلى علم يوسف بتأويل ما رآه، بإشارة لغويّة: فالشمس والقمر والكواكب
هي جمع لغير العاقل، ويُعبّر عنها بمفرد المؤنث مثلاً: رأيتها لي ساجدة. ولكن يوسف
عبّر عنها بالعاقل:
﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾
إشارة إلى أنه يتحدّث عن أشخاص لا كواكب.
*من فصاحة نساء العرب
دخلت امرأة على هارون العبّاسيّ، وعنده جماعة من وجوه أصحابه، فقالت: يا أمير
المؤمنين أقرّ الله عينك، وفرّحك بما آتاك، وأتمّ سعدك... لقد حكمت فقسطت.
فقال لها: مَن تكونين أيّتها المرأة؟
فقالت: من آل برمك، ممَّن قَتلت رجالهم وأخذت أموالهم.
فقال: أمّا الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، ونفذ فيهم قدَره، وأمّا المال
فمردّه إليك. ثمّ التفت إلى الحاضرين من أصحابه فقال: أتدرون ما قالت هذه المرأة؟
فقالوا: ما نراها قالت إلّا خيراً.
قال: ما أظنّكم فهمتم شيئاً. أمّا قولها: "أقرّ الله عينك" أي أسْكَنها،
وإذا سكنت العين عن الحركة عميت.
وأمّا قولها: "فرّحك بما آتاك" فأخذته من قوله تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ
أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً﴾
(الأنعام: 33).
وأمّا قولها: "وأتمّ الله سعدك" فأخذته من قول الشاعر:
إذا تمّ أمرٌ بدا نقصه ترقّب زوالاً إذا قيل تمّ
وأمّا قولها: "لقد حكمت فقسطت" فأخذته من قوله تعالى:
﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾
(الجن: 10).
*من نوادر الأطفال
قال رجل لطفل: ابن كم أنت؟
قال: ابن رجلٍ واحد!
قال: إنما سألتك عن عمرك.
فقال الطفل: فقل: كم عمرك؟ فقال له كذلك، قال: ثمانية أعوام.
قال: أحيّةٌ أمّك؟
قال: ما هي بحيّة ولا بعقرب، ولكنها امرأة.
فقال: فكيف أقول؟
فقال له: قل: أفي الأحياء أمك؟
فقال له كذلك, فقال له: نعم.
1- الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص480.