د. محمد رضا فضل الله
يظهر من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"(1) أنّ الدعوة إلى مكارم الأخلاق كانت من
أهداف الرسالات السماويّة، باعتبارها القاعدة الصّلبة التي تؤسّس لمجتمع نظيف
ومتوازن، يعيش أبناؤه الحبّ والصدق والأمانة والتواضع والتعاون والإصلاح
والإيثار... فالإنسان فيه يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، يعفو عمّن ظلمه، ويعطي من
حرمه، ويصل من قطعه، ليّناً قوله غائباً منكره، حاضراً معروفه، لا يدخل في باطل،
ولا يخرج من حقّ، يحترم من يتفق معه في الرأي، ويحاور من يختلف معه، "نفسه منه
في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه..."(2) كما
قال الإمام عليّ عليه السلام في خطبة المتّقين.
*لا بدّ من خطّة تربويّة
صورة هذا الإنسان الاجتماعي المسلم التي رسمتها آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول
والأئمّة عليهم السلام، وسيرة الأولياء الصالحين، كيف يمكن أن نُظهرها، ونُحدّد
معالمها، لتكون صورة إنساننا في الحاضر والمستقبل، صورة المسلم القرآني النموذجي،
والمحمّدي الأصيل؟
وحتى نؤكّد مكارم الأخلاق في حياتنا الاجتماعيّة، من المفيد رسم خطّة تربويّة نحدّد
بها مفردات الأخلاق الفاضلة، ووسائل تنميتها، وأساليب ترسيخها، من أجل أن تتحوّل
قيمها إلى أفعال سلوكيّة، ومواقف إنسانيّة، تجسّد واقعاً نظيفاً في المجتمع...
من عناوين هذه الخطّة:
1- التربية على التقوى: من مظاهرها الالتزام بما أمر الله تعالى به ونهى
عنه. يحصل ذلك من خلال تنمية الوازع الداخلي الذي يتمثّل بالشعور الدائم بحضور الله
تعالى في كلّ قول يتفوّه به الإنسان، وكلّ فعل يمارسه، وكلّ موقف يتّخذه... أن يعيش
حالتَي الخوف والرجاء، يخاف من ذنبه، ويرجو رحمة ربّه، فلا يخطو خطوة إلّا ويجد
الله محيطاً به، يراقبه، يحذّره ويشجّعه.
2- فهم مفردات الأخلاق: من يريد أن يتجمّل بالأخلاق الفاضلة وفق القواعد
الشرعيّة، ويدعو إليها بالأساليب القرآنيّة، لا بدّ له من فَهم مكوّنات مفرداتها،
فإذا أراد أن يعيش صفة الإحسان، ويتخلّق بعناصرها، عليه أن يعرف طبيعة الإحسان،
وأهميّته وحدوده، وأنواعه، ومَنْ أحقّ به، وكيف نمارسه لنحقّق الهدف من فعله... ثم
إنّ هناك حالات استثنائيّة على المسلم أن يحيط بها من أجل الوقاية والسلامة (حدود
الصدق مع العدوّ، جواز الغيبة من أجل الإصلاح...). وفي المقابل يحسُن أن يعرف
الإنسان ما يقابل مفردات الأخلاق الفاضلة، مفردات الأخلاق المنكرة من حِقد وكذب
وخِيانة وكِبَر وفساد وفتنة... ليوازن بين أنواع الأخلاق، وطبيعة التعامل مع كلّ
واحد منها.
خلاصة القول: من واجبنا أن نثقّف أبناءنا على تحديد خصائص ومجالات كلّ المفردات
الأخلاقيّة - إن أمكن - مع آثارها الإيجابيّة والسلبيّة ثمّ ما يرافقها من نشاطات
تُركّز على الأخلاق الفاضلة، وترفض السيّئة.
3- وسائل تنمية الأخلاق: حتّى نربّي أبناءنا على الأخلاق في علاقتهم مع الآخر،
من الأفضل استخدام الأساليب الجاذبة والوسائل الحسيّة والمعنويّة المقنّعة، التي
يكتشفون من خلالها الحقائق الخلقيّة، وآثارها الاجتماعيّة، لتركّز فيهم المعرفة،
وتثير فيهم القناعة، وتدفع بهم نحو السلوك الحسن. من هذه الوسائل:
أ- الاستشهاد بالآيات والأحاديث والحِكم والأمثال والأشعار.
ب- القصص الأخلاقيّة الهادفة، وهي ما يحبّه الأولاد ويألفونه، وبنجذبون إليه
سماعاً، ومتابعةً وعيشاً، فينشدّون إلى تصرّفات شخصيّاتها بأخلاقهم وآدابهم بشكل
عفويّ وتلقائيّ.
ج- الأحداث اليوميّة التي تروي تجاربهم، وتتحدّث عن علاقاتهم في إطار الأسرة أو
السوق أو المدرسة أو المجتمع.
د- الإشارة إلى آثار العمل الطيّب في حياة الناس، سواء السياسيّة والاقتصاديّة أو
الاجتماعيّة أو الشخصيّة... وما يمكن أن تتركه من سُمعة طيّبة، واحترام كبير، وثقة
عالية، وما يمكن أن ينعكس إيجابيّاً على النظام العامّ.
4- القدوة الحسنة: ولعلّ أكثر ما نحتاجه في تنمية الأخلاق وتعزيزها هو المربّي سواء
كان أباً أو أمّاً أو معلّماً أو صديقاً... ليأخذ الفرد أخلاقه وقيَمه من خلال
التطبيق، لا من خلال الوعظ والإرشاد النظريّ فقط، وذلك أكثر وقعاً في النفس،
وأثْبَت في الفعل، وأرسخ في اليقين.
وهنا نتوجّه بصدق وشفافيّة إلى مختلف المربّين ليمثّلوا الأسوة الحسنة، والصورة
الحيّة للأخلاق في حركاتهم ومواقفهم، بحيث يشاهد الإنسان بعين البصر والبصيرة حركة
الصدق في القول، والفعل والإشارة. فإذا قالوا فعلوا، وإذا وعدوا وفَوا، وبذلك تنغرس
صفة الصدق في عمق ذاكراتهم، وفي وَعي عقولهم، وفي حركة نشاطهم، فلا يحيدون عنها في
كلّ تفاصيل حياتهم.
والقدوة هي ما أكّد عليها القرآن الكريم في الإشارة إلى الاقتداء برسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم الذي يمثّل القرآن الناطق
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ
كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21).
5- التشجيع والترغيب: من أساليب تنمية الأخلاق الاجتماعيّة أيضاً: أساليب الترغيب
والتشجيع والإغراء...
*الأخلاق الفاضلة سعادة الفرد
إذ يستطيع الفرد أن ينال رضى الله تعالى، وهو الهدف والغاية، وفي الوقت ذاته يتكامل
إيمانه، ويحصل على موقعه القريب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يقول:
"إنّ من أحبّكم إليّ، وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً"(4).
مضافاً إلى ذلك يحصل الفرد بأخلاقه على محبّة الآخر وثقته واحترامه، وهذا ما يثير
لديه راحة الضمير، والشعور الفعلي بالرضى والقبول.
*الأخلاق الفاضلة سعادة المجتمع
أمّا على صعيد المجتمع، فالأخلاق تجعل الناس يعيشون مجتمع الفضيلة والحقّ والعدل،
تربط أفراده علاقات المحبّة والمودّة، وتنتشر في آفاقه أجواء الثقة والتعاون
والانضباط والطمأنينة الروحيّة.
وبالأخلاق الفاضلة يعيش الفرد الأمن الداخليّ في ذاته، والأمن الخارجيّ في مجتمعه،
وهذا هو قمّة ما يطمح إليه الإنسان ليسعد هو، ويسعد غيره.
ونحن حينما نتطلّع إلى الحياة الاجتماعيّة بكلّ أبعادها ومجالاتها السياسيّة
والاقتصاديّة والدينيّة والأمنيّة... نلاحظ أن كلّ جانب منها، مهما كان بسيطاً أو
خطيراً، يحتاج إلى الأخلاق، ولا يستقيم إلّا بها:
- فالاقتصاد يحتاج إلى أخلاق، وإلّا تحوّل إلى غشّ واحتكار وجشع واستغلال.
- والسياسة تحتاج إلى أخلاق، وإلّا تحوّلت إلى كذب ومَكر وخداع واحتيال.
- والقوّة العسكريّة تحتاج إلى أخلاق، وإلّا تحوّلت إلى أداة مجرمة تفتك بالبشر
والحجر دون رحمة أو ضمير إنسانيّ رادع.
- والاجتماع يحتاج إلى أخلاق أيضاً، وإلّا تحوّل المجتمع إلى بؤرة فساد وفتنة
وإفساد... تكثر فيه مظاهر الكذب والخيانة والظلم.
*توازن الحياة... بالأخلاق
إنّ كل جوانب الحياة الإنسانيّة لا تستقيم، ولا تتوازن إلّا بالأخلاق. هذا واقع
قرأناه في التاريخ، ولا نزال نعيشه في الحاضر، وما سوف يكون في المستقبل، إنها سنّة
الله تعالى في خلقه.
﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ (الروم: 9).
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ
أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾ (الروم: 10).
وحتى نؤكّد تنمية الجانب الأخلاقيّ في شخصيّات أبنائنا وبناتنا، يكفي أن نراقب ما
حولنا، وما يُحاك لنا من خطط ماكرة تستهدف رأس الأخلاق من أجل أن تحقّق أهدافها
الخفيّة.
فالدول الكبرى المستكبرة تجتهد ليل نهار من أجل أن تستنزف ثروات الشعوب المستضعفة
من خلال الحرب الناعمة التي تُرسم خطوطها ببراعة وخبث، والتي تظهر معالمها في
برامجها الإعلاميّة والإعلانيّة، وفي خططها السياسيّة والاجتماعيّة، وفي مناهجها
الثقافيّة والتعليميّة، مركّزةً بذلك على إشاعة كلّ أجواء الفاحشة والفساد
والانحلال، وبالأخصّ في أوساط الفئات الشبابيّة، مستغلّة كلّ وسائط الاتصالات
الحديثة، وعرض الأفلام الغريزيّة المشبوهة، ونشر التوجيهات الفكريّة الضالّة...
مغلّفة كلّ ذلك ببعض الشعارات البرّاقة، والمغرية، من ديمقراطية وحقوق إنسان
وغيرها، والهدف الوحيد من ذلك كلّه هو إطفاء جذوة الحماس الإيمانيّ والجهاديّ،
وصَرْف تفكير الشباب عن قضايا الحريّة والعدالة والتحرّر.
بالأخلاق يسمو الإنسان، ويرتقي المجتمع، ليعيش الناس جميعاً سعادتهم الحقيقيّة
في الدنيا، وسعادتهم الأبديّة عند مليك مقتدر.
1- كنز العمال، الحديث 5217.
2- نهج البلاغة، صفات المتقيين.
3- بحار الأنوار، المجلسي، ج71، ص385.