العلامة الطباطبائي
اعلم إن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل، واكتساب الأخلاق الفاضلة، وإزالة الأخلاق الرذيلة إنما هو بتكرار الأعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها، والمداومة عليها، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية، علومٌ جزئية، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشاً متعذر الزوال أو متعسرها.
مثلاً إذا أراد الإنسان إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكّرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلولب وتقلقل الأحشاء، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الإقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشاً بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة. وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.
إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الأخلاق واكتساب الفاضل منها أحد مسلكين:
المسلك الأول: تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس. كما يقال: إن العفة وقناعة الإنسان بما عنده والكف عمّا عند الناس، توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة. وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر. وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة. وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والأنس عند الخاصة. وإن العلم بصر يتقي به الإنسان كل مكروه ويدرك كل محبوب، وإن الجهل عمى، وإن العلم يحفظك وأنت تحفظ المال. وإن الشجاعة ثبات تمنع النفس عن التلوّن وطلب الحمد من الناس على أي تقدير، سواءٌ غلب الإنسان أو غلب عليه، بخلاف الجبن والتهوّر. وإن العدالة راحة النفس عن الهمم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب.
وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الأخلاق، والمأثور من بحث الأقدمين من يونان وغيرهم فيه.
ولم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بناؤه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم، والأخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه. نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أُخروي أو عقاب أُخروي كقوله تعالى: ﴿وحيثما كنتم فولُّوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة﴾. حيث دعا سبحانه إلى العزم والثبات، وقوله ﴿لئلا يكون﴾، وكقوله تعالى: ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا﴾، دعا سبحانه إلى الصبر، وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرأة العدو، وقوله تعالى: ﴿ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾، دعا إلى الصبر والعفو، وعلله بالعزم والإعظام.
المسلك الثاني: الغايات الأخروية، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه: ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أَنفسهم وأَموالهم بأن لهم الجنة﴾، وقوله تعالى: ﴿إنما يوفى الصابرون أَجرهم بغير حساب﴾، وقوله تعالى: ﴿إن الظالمين لهم عذاب أَليم﴾، وقوله تعالى: ﴿الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أَولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات﴾، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.
ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى ﴿ما أَصاب من مصيبة في الأرض ولا في أَنفسكم إلاَّ في كتاب من قبل أن نبرأَها إن ذلك على الله يسير﴾ فإن الآية دعت إلى ترك الأسى والفرح بأن الذي أصباكم ما كان ليخطئكم، وما أخطأكم ما كان ليصيبكم، لإستناد الحوادث إلى قضاء مقضي وقدر مقدّر، فالأسى والفرح لغوٌ لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله، الذي بيده أزمَّة الأمور، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿ما أَصاب من مصيبة إلاَّ بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه﴾. فهذا القسم من الآيات أيضاً نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى أصلاح الأخلاق بالغايات الشريفة الأخروية، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الأخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.
المسلك الثالث: يربى الإنسان وصفاً وعلماً باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل
فإن قلت: التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية، وفي ذلك بطلان الأخلاق الفاضلة، واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والأسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق، وكسب كل كمال مطلوب، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق والدفاع عن الحّق، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب، وكذا يجوز أن نترك السعي في كل كل كمال، وترك كل نقص بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب، وفي ذلك بطلان كل كمال.
قلت: (قد ذكرناه في البحث عن القضاء، ما يتضح به الجواب عن هذا الأشكال، فقد ذكرنا دور الاعتقاد بالقضاء والقدر في تهذيب النفس ثم أن الأفعال الإنسانية من أجزاء علل الحوادث، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودا على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها، فقول القائل: "إن الشبع إما مقضي الوجود، وإما مقضي العدم، وعلى كل حال فلا تأثير للأكل" غلط فاحش، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلاَّ بعد فرض تحقق الأكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله، فمن الخطأ أن يفرض الإنسان معلولاً من المعاليل، ثم يحكم بإلغاء علله أو شيء من أجزاء علله.
فغير جائز أن يبطل الإنسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حياته الدنيوية، وإليه تنتسب سعادته لقاؤه، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله، أو الأحوال والملكات الحاصلة من أفعاله. غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل، وإبطال حكمه في التأثير، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سبباً وحيداً، وعلّة تامة إليها تستند الحوادث، من غير أن يشاركه شيء آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الإرادة الإلهية، فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل، والفرح والأسى، والغم ونحو ذلك.
يقول الجاهل: أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا، فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله وهو جاهل بأن بقية الأسباب الخارجة عن اختياره الناقص، وهو ألوف وألوف لو لم يمهد له الأمر لم يسد اختياره شيئاً، ولا أغنى عنه شيء يقول الجاهل: لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا، أو لما فات عني كذا، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه أعني الريح أو العافية، أو الحياة فيه إلى أُلوف وأُلوف من العلل يكفي في انعدامها أعني في تحقق الفوات أو الموت ؛ انعدام واحد منها، وإن كان اختياره موجوداً، على أن نفس اختيار الإنسان مستند إلى عدد كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان، فالاختيار لا يكون بالاختيار.
فإذا عرفت ما ذكرناه وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الإلهي كما مرّ، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الأخلاق دون بعض.
فما كان من الأفعال أو الأحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار، فإن القرآن لا يستند إليه، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى: ﴿وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أَمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾.
وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الإنسان في التأثير، وكونه سبباً تاماً غير محتاج في التأثير، ومستغنياً عن غيره، فإنه يثبت استناده إلى القضاء ويهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطىء بسالكه، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه. كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الإنسان بما وجده جهلاً، ولا يحزن بما فقده جهلاً كما في قوله تعالى: ﴿وآتوهم من مال الله الذي آتاكم﴾، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى، وكما في قوله تعالى: ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾، فإنه يندب إلى الإنفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى، وكما في قوله تعالى: ﴿فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أَسفاً، إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أَيهم أَحسن عملاً﴾، نهى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن والغم استناداً إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله شسبحانه بل على الأرض من شيء أمورٌ مجعولةٌ عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك.
وهذا المسلك أعني الطريقة الثانية في إصلاح الأخلاق طريقة الأنبياء، ومنه شيء كثير من القرآن، وفيما ينقل إليها من الكتب السماوية.
وههنا مسلك ثالث مخصوصٌ بالقرآن الكريم لا يوحد في شيء مما نقل إلينا من الكتب السماوية، وتعاليم الأنبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الإلهيين، وهو تربية الإنسان وصفاً وعلماً باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل، وبعبارة أخرى إزالة الأوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.
وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها، لكن الله سبحانه يقول: ﴿إن العزة لله جميعاً﴾، ويقول: ﴿إن القوة لله جميعاً﴾، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقي موضوعاً لرياء، ولا سمعة، ولا خوف من غير الله، ولا رجاء لغيره، ولا ركون إلى غيره. فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للإنسان تغسلان كل ذميمة وصفاً أو فعلاً عن الإنسان وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الإلهية من التقوى بالله، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية.
وأيضاً قد تكرر في كلامه تعالى، أن الملك لله، وأن له ملك السماوات والأرض وأن له ما في السماوات والأرض، وقد مرّ بيانه مراراً، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقي لشيء في الموجودات استقلالاً دونه، واستغناء عنه بوجه من الوجوه، فلا شيء إلاّ وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته. وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتاً ووصفاً وفعلاً عند عن درجة الاستقلال، فذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشيء، أو يخاف أو يرجو شيئاً، أو يلتذ أو يبتهج بشيء، أو يركن إلى شيء أو يتوكل على شيء أو يسلم لشيء أو يفوض إلى شيء، غير وجهه تعالى، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئاً إلاّ وجه الحق الباقي بعد فناء كل شيء، ولايعرض إعراضاً، ولا يهرب إلاّ عن الباطل الذي هو غيره (غير الله) الذي لا يرى لوجوده وقعاً ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.
وكذلك قوله تعالى: ﴿الله لا إله هو له الأسماء الحسنى﴾ وقوله ﴿ذلكم الله ربكم لا إله إلاّ هو خالق كل شيء﴾، وقوله: ﴿الذي أَحسن كل شيء خلقه﴾، وقوله: ﴿وعنت الوجوه للحي القيوم﴾. وقوله: ﴿كل له قانتون﴾، وقوله: ﴿وقضى ربك أَلاَّ تعبدوا إلاَّ إيّاه﴾، وقوله: ﴿أَو لم يكف بربك أَّنه على كل شيء شهيد﴾، وقوله ﴿أَلا إنه بكل شيء محيط﴾، وقوله: ﴿وإن إلى ربك المنتهى﴾.
ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: ﴿وبشر الصابرين الذين إذا أَصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، ولا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم.
هذا المسلك يفترق عن المسلكين الأولين لأن بناءه على الحب الربوبي وإيثار جانب الرب على العبد
فإن المسلك الأول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح، والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الإسلام على مشرعه وآله أفضل الصلاة هذا.
فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الإسلام، وحاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤون المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الإسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلَّفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الإسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو إليها جميع الأنبياء هذا.
وأنت بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظرة وخبط رأيه، فإن النتيجة فرع لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، ولبسا سواءٌ قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال. وهذا حال هذا المسلك الثالث. فأول المسلك يدعو إلى الاجتماعي، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي في سعادة الإنسان في حياته الآخرة، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحدٌ لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق!
وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنساني جماً غفيراً من العباد الصالحين، والعلماء الربانيين، والأولياء المقربين رجالاً ونساءً، وكفى بذلك شرفاً للدين.
على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بناءه على الحب العبودي، وإيثار جانب الرب على جانب العبد، ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكامٌ، وللحب أحكام، وسيجيء توضيح هذا المعنى في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.