تحقيق: بتول عسيلي
يتعرّض الإنسان، في حياته، لمصائب وابتلاءات، لا بدّ له من مواجهتها، فكيف يواجهها؟
بعض الناس يواجهها بالبكاء والنحيب والوحدة... فتنشأ عن ذلك أمراض نفسيَّة قد تؤدّي
إلى اليأس من رحمة الله عزَّ وجلًّ، أو إلى الكفر، وقد يصل الأمر ببعضهم الآخر إلى
التفكير بالانتحار. وحده الإنسان المؤمن الواثق بالله تعالى يواجه الصعوبات بالصبر،
وهو الذي يصله بالأمل.
*نِعمةٌ إلهيّة
الثقة بالله نعمة إلهيّة، تجعل الإنسان يعيش حالة من الاستقرار النفسيّ والروحيّ،
لأنّه يشعر أنّ كلّ ما يحصل معه في الحياة هو بعين الله. ولأهميّة الموضوع سوف
نتطرّق إلى بعض الحالات المشرقة في مجتمعنا الإسلاميّ التي واجهت آلامها بصبر
وشجاعة. وأيضاً، سنعرّج على وسائل تعزيز الثقة بالله، ونتائج هذه الثقة على الإنسان.
نماذج وحالات نقرأها ونسمعها لأشخاص حوّلوا أصعب اللّحظات وأسوأ الظروف إلى جنّة
وسعادة ورضا.
*نحمد الله على هذه النِّعم
"ما قدّمناه قليل، فكلّ ما نملك فداء لأهل البيت عليهم السلام، وفداء لسماحة السيّد
حسن نصر الله" بهذه الكلمات أجاب والد الشهداء الثلاثة من عائلة بدَّاح (أبو عليّ)،
عندما سألناه: "ثلاثة شهداء يا حاج، أليس الأمر صعباً عليك؟". فقال:
"هذا خطّنا،
ولا بديل عنه، فأهل البيت عليهم السلام استشهدوا لإحياء شريعة النبيّ محمّد صلى
الله عليه وآله وسلم، وأحمدُ الله وأشكره أنّ أولادي لم ينصروا ظالماً، ولم يُقتلوا
بطرق غير مشروعة، بل سلكوا طريق رضا الله تعالى، وهم رحلوا إلى من هو أكرم منّي،
وأرحم".
القائد أبو حسن بدَّاح كان ثالث شهيد في عائلة الحاج أبي عليّ، الذي عندما علِم
بنبأ استشهاده، وقف وتوجَّه للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، وخاطبه
قائلاً: "أنا وهبتك إيّاه منذ صغره، وأطلب من الله أن يعيده؛ ليجاهد معك مرَّة أخرى
في دار الدنيا بعد ظهورك".
وفي بلدة ميفدون التقينا الحاجّة (نمرة)، الأمَّ التي فقدت ابنتيْها في حرب تموز،
قالت: "كنت أخجل دائماً من عوائل الشهداء، وأقول في نفسي يا ليت لديّ شابّاً أقدّمه
فداءً لهذا الخطّ، فأنا لم أُرزق إلّا بفتيات، ولكن الحمد لله، استجاب ربِّي لدعائي،
وأخذ منّي بدل الواحدة اثنتين، وهذا ما أعطاني عزّاً في الدنيا وفي الآخرة، حيث
أواسي بهما قلب سيدتنا الزهراء عليها السلام ".
*اليأس من رحمة الله موتٌ
وفي المقلب الآخر، نرى بعض الحالات التي لم تبدِ اعتماداً على الله ولا ثقةً به،
فكانت ردّات فعلها بعد تعرّضها للأزمات أو المصائب تتراوح بين العزلة، والأمراض
النفسيّة، والقتل أو الانتحار.
فهذا أبٌ لأربعة أولاد، (46 عاماً)، أصيب يوماً بمرض خطير، وبدأ المرض يتفاقم معه
يوماً بعد يوم، فقرّر الانتحار، بعد (6) سنوات من معاناته مع المرض.
وتلك فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، تقتل نفسها؛ لأنَّ خطيبها فسخ خطوبتها... وإلى
ما هنالك من القصص العجيبة التي غالباً ما تنتهي بمآسٍ.
فلماذا يصل الإنسان إلى هذا الحدّ؟ الجواب، بالطبع إنَّه اليأس من رحمة الله عزَّ
وجلَّ.
* وفي الحروب... صورتان
الثقة بالله يحتاجها المرء في كلّ وقت، فإذا نظرنا إلى المجتمعات الغربيّة مثلاً:
كانت العوارض النفسيّة للمقاتلين الأميركيين في الحرب العالميّة الثانية قد بلغت
حوالي 23 %، من مجمل الأضرار البشريّة التي تسبّبت بها الحرب.
عِلماً أنَّ المشاكل النفسيّة لا تنتهي بانتهاء الحرب، وإنَّما يمتدّ أثرها إلى
سنوات طويلة، فكثير من الذين تعرّضوا لمشاكل نفسيّة أثناء الحروب، ساءت حالتهم
كثيراً بعد انتهاء الحرب، وأصبح كثير منهم مدمنين على المخدِّرات والكحول فيما
انتهى المطاف ببعضهم في المصحّات النفسيّة كمرضى نفسيّين مزمنين.
وأكبر مثال على واقعنا الحاضر الحالات النفسيّة التي أصابت جنود جيش العدوّ
الإسرائيليّ، ففي حرب تموز الأخيرة 2006، وفي الشهر الأوّل بعد انتهاء الحرب قُدّمت
(450) دعوى إلى وزارة الدفاع من جنود شاركوا في حرب تموز، يطالبون فيها بتعويضات،
منها 100 دعوى اعتبر مقدّموها أنفسهم مرضى نفسيّين، ومنهم من أخذ يعاني من أمراض
عقليّة.
وهذا الأمر لا نجده أبداً في صفوف مجاهدي المقاومة الإسلاميّة الذين هم في حالة ذكر
دائم لله، فالهدف هو الشهادة ولقاء الباري تعالى، إنّها الثقة بالله.
*ما معنى الثقة؟
في لقاء مع الدكتور عجرم عجرم "معالج نفسيّ ومختصّ بالسيكودراما"، تحدّث عن معنى
الثقة وأهميّتها في نفسيّة وأداء الإنسان، فقال بداية في تعريف معنى الثقة:
"أن تثق يعني أن ترمي خوفك وحُزنك جانباً في مدى الأيام والسنوات، وأن تتحرّر نفسُك
وروحُك وعقلُك من القلق والاضطراب والشك، فكيف إذا كانت الثقة بالله سبحانه وتعالى؟
عندما تكون ثقتك بالله قائمة، فهذا يعني أنّك تثق بكرم الله وفضله ولطفه وأمانه،
وإذا كنت تثق بأنَّ الله معك، يراك ويسمعك، فهذا يعني أن تشعر بالأمان والسلام
الداخليّ؛ لأنّ توقّعاتك بأنّ القادم من الأيام والسنوات سوف يشهد تغييراً نحو
الأفضل، وهذا سوف يحوّل الاضطراب والقلق إلى انتظار إيجابيّ، وإلى شعور بالسلام
الداخليّ".
*"لا تحزني إنّا رادّوه إليك"
أمّا دينيّاً، فقد شرح الشيخ أحمد جابر مضمون الثقة بالله في سلوك أمّ النبيّ موسى
عليه السلام:
قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ
عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾. (القصص:7)
حيث يوحي الله تعالى لأمّ موسى أن تُلقي فلذة كبدها في البحر، فتمتثل أمره تعالى من
دون أن يتملّكها أيّ خوفٍ أو حزنٍ، لأنّ الله تعالى ضمِن لها عودته إليها وأنه
سيُبعث رسولاً.
وما كان لأمّ موسى أن تبادر بالقيام لما صدر منها، لولا أن ربط الله على قلبها،
فوثقت بوعده تعالى.
إنّها الثقة التي تعني أن يعلم المرء أنّ الله تعالى لا يألوه خيراً وفضلاً، ويعلم
أنّ الحكم في ذلك له.
*الأساس هو الثقة بالله
ويتابع الشيخ جابر: "عندما نتأمّل في معنى الثقة بالله ندرك تفاعل هذا المفهوم مع
عناصر أخرى؛ كحسن الظنّ بالله تعالى، والتوكّل عليه، وتفويض الأمر إليه، والرضا
بقضائه، وغيرها، وهي جميعاً عناصر الإيمان الحقيقيّ بالله تعالى، حيث تكون الثقة هي
الأساس الذي تقوم عليها بقية العناصر".
عن عليّ بن سويد، عن الإمام أبي الحسن الأوّل (الكاظم) عليه السلام، قال: "سألته عن
قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، فقال:
التوكّل على الله درجات، منها: أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها، فما فعل بك كنت
عنه راضياً، وتفوّض أمرك إليه، وتثق به".
والمستفاد من هذه الرواية أنّ الثقة بالله تعالى هي مفتاح التوكّل وتفويض الأمر،
وما لم يثق العبد بربّه لا يمكنه نيلهما.
مع قليل من التأمّل يدرك المرء أنّ الثقة بالله شرطها الأساس وقوامها قوّة الإيمان
وصلابة العقيدة، وكلّما قَويَ الإيمان واشتدّ اليقين، اشتدّت الثقة بالله تعالى.
*ما الذي يساهم في تعزيز الثقة بالله؟
يذكر د. عجرم أن أهمّ ما يعزّز الثقة بالله في نفس الإنسان أمور، منها:
1- التأمّل في ظواهر الحياة، وتقلّب حال البلاد والعباد. فالتأمّل في الطبيعة
وجمالها يجعلنا نرى جمال وجودنا، ونتفكّر في تجدّد الحياة الدائم.
2- التأمّل في آيات القرآن الكريم وقصص الأنبياء الذين تملأ حياتهم الثقة والأمل.
3- البساطة في الحياة تصنع الثقة والأمل، وكذلك تجنّب استهلاك البرامج والدراما
التلفزيونيّة الغربيّة التي تعمل على زعزعة ثقة الإنسان بالمستقبل، من خلال تفاصيل
الحبكة الدراميّة والقصص السلبيّة التي تتسلّل إلى عقل وقلب الإنسان دون أن ينتبه
لذلك.
4- التفكير بطريقة إيجابيّة، فمن المعلوم أنّ الإنسان يحدّث نفسه يوميّاً بحوالي
5000 كلمة، فإذا كان حديثه مع نفسه سلبيّاً ومحبطاً فسوف يتأثّر، ويتحوّل إلى إنسان
يائس ومحبط.
5- تكرار ذكر الله، ولا سيّما السور والآيات القرآنيّة التي تفتح عقل الإنسان وروحه
على الأمل والتسامح والرقيّ.
6- من أهم التمارين التي تزيل عن النفس الإحباط: التواصل مع الناس، وزيارة الأصدقاء
والأقارب، ومن خلال التعبير بواسطة الفنون المختلفة، كالرسم والتمثيل والإنشاد.
*نتائج الثقة بالله وآثارها
تؤكدّ الروايات - وتصدّقها التجارب العمليّة - على مجموعة من الآثار المهمَّة
والعميقة للثقة بالله تعالى في حياة الإنسان، ذلك أنّها:
1- من صفات أولياء الله: وهو ما ورد معنا عن الأنبياء عليهم السلام، عن النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم: "ثلاث خصال من صفات أولياء الله: الثقة بالله في كلّ شيء،
والغنى به عن كلّ شيء، والافتقار إليه في كلّ شيء"1.
2- حصن المؤمن: عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:
"الثقة بالله وحسن الظنّ به،
حصن لا يتحصّن به إلّا كلّ مؤمن، والتوكّل عليه نجاة من كلّ سوء، وحرز من كلّ عدوّ"2.
3- ثمنٌ لكلّ غالٍ: عن الإمام الجواد عليه السلام:
"الثقة بالله تعالى ثمن لكلّ غالٍ،
وسلّم إلى كلّ عالٍ"3.
4- أقوى أمل: عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"الثقة بالله أقوى أمل"4.
5- صيانة اليقين: عن أمير المؤمنين عليه السلام:
"من وثق بالله صان يقينه"5.
6- السعادة: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من وثق بالله أراه السرور، ومن توكّل
عليه كفاه الأمور"6.
1- بحار الأنوار: المجلسي. ج100، ص20.
2- جامع أحاديث الشيعة: السيد البروجردي. ج14، ص174.
3- كتاب الحج: المحقّق الداماد الآملي. ص2، ص65.
4- عيون الحكم والمواعظ: علي بن الليثي الواسطي. ص40.
5- م.ن، ص446.
6- نهج البلاغة. خطبة (90).