إذا أعلن السالك إلى الله بالتكبيرات عظمةَ الحقّ تعالى عن التوصيف، وبالشهادة بالألوهيّة قصرَ التوصيف والتحميد، بل كلّ تأثير على الحقّ، وأسقط نفسه عن اللياقة للقيام بالأمر، واختار الرفيق والمصاحب بالشهادة بالرسالة والولاية، وتمسّك بمقام الخلافة والولاية المقدّسة، كما قيل الرفيق ثمّ الطريق، وبعد ذلك كلّه لا بدّ له من أن يهيّئ القوى الملكيّة والملكوتيّة بصريح اللّهجة للصلاة، ويعلن لها الحضور بقوله: "حيّ على الصلاة".
•سرّ تكرار "حيّ على الصلاة"
أمّا تكراره في الأذان فهو للتنبّه التامّ والإيقاظ الكامل؛ أو أنّ أحدهما إيقاظٌ لقوى المملكة الداخليّة، والآخر إيقاظٌ لقوى المملكة الخارجيّة؛ لأنّهما أيضاً يسلكان هذا السفر مع الإنسان.
•أدب الدعوة إلى الصلاة
أدب السالك في هذا المقام هو:
1- أن يُفهم قلبه وقواه وباطن قلبه قرب الحضور، حتّى يتهيّأ له، ويراقب آدابه الصوريّة والمعنويّة بمنتهى الدقّة.
2- أن يعلن سرّ الصلاة ونتيجتها بقوله: "حيّ على الفلاح"، و"حيّ على خير العمل"، كي يوقظ الفطرة.
•سرّ تَكرار التكبيرات
يكرّر "الله أكبر" في جميع حالات الصلاة وانتقالاتها، والتوحيدات الثلاثة (الذاتيّ والصفاتيّ والأفعاليّ) التي هي قرّة عين الأولياء تحصل في الصلاة، وتمتزج فيها صورة الفناء المطلق والرجوع التامّ. وبحسب الباطن والحقيقة هي معراج قرب الحقّ وحقيقة الوصول إلى جمال الجميل المطلق، والفناء في ذاته المقدّسة التي تعشقها الفطرة، وتحصل بها الطمأنينة التامّة والراحة المطلقة، والسعادة العقليّة التامّة، ألا إلى الله تطمئن القلوب.
فالكمال المطلق إذاً -وهو الوصول إلى فناء الله والاستغراق في بحر النور المطلق- يحصل في الصلاة. وفيها أيضاً تحصل الراحة المطلقة، والطمأنينة التامّة، ويحصل فيها ركنا السعادة (الكمال المطلق والراحة المطلقة)؛ فالصلاة هي الفلاح المطلق، وهي خير الأعمال.
وعلى السالك أن يُفهّم القلب هذه اللطيفة الإلهيّة بالتكرار والتذكّر التامّ، ويوقظ بها الفطرة. فإذا وردت هذه اللطيفة إلى القلب، فالفطرة من حيث إنّها طالبة للكمال والسعادة تهتمّ بها وتحافظ عليها وتراقبها، وفي تكرارهما أيضاً النكتة التي ذكرناها.
•قد قامت الصلاة
فإذا وصل السالك إلى ذلك المقام، يُعلن الحضور، فقد قامت الصلاة. وأدبه:
1- أن يرى نفسه في حضرة مالك الملوك في العوالم الوجوديّة، وسلطان السلاطين، والعظيم المطلق.
2- أن يُفهّم قلبه خطر الحضور الذي يرجع كلّه إلى القصور والتقصير الإمكانيّ.
3- أن يرد محضر الصلاة بغاية الخجل من عدم القيام بالأمر، وبقدمَي الخوف والرجاء، ويفد على الكريم، ولا يرى لنفسه زاداً ولا راحلة.
4- أن يرى قلبه فارغاً عن السلامة.
5- أن لا يحسب عمله من الحسنات، ولا يعدّه شيئاً يُذكر.
فإذا استحكمت هذه الحال في القلب، فالمرجوّ أن يقع مورداً للعناية: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (النمل: 62).
•مسؤوليّة إمام الملائكة
عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "من صلّى بأذان وإقامة، صلّى خلفه صفّان من الملائكة، ومن صلّى بإقامة من غير أذان صلّى خلفه صفٌّ واحدٌ من الملائكة، قلت له: وكم مقدار كلّ صفّ؟ فقال: أقلّه ما بين المشرق والمغرب، وأكثره ما بين السماء والأرض". وفي بعض الروايات: "وإن أقام بغير أذان صلّى عن يمينه واحد وعن شماله واحد"، إلى غير ذلك من الأخبار.
وبالجملة، إذا رأى السالك نفسه إماماً لملائكة الله، وقلبه إماماً لقواه الملكيّة والملكوتيّة، وجمع بالأذان والإقامة قواه الملكيّة والملكوتيّة، واجتمعت عليه ملائكة الله، فعليه أن يجعل القلب، وهو أفضل قوى الظاهر والباطن وشفيع سائر القوى، إماماً.
وحيث إنّ القلب ضامن لقراءة المأمومين ووزرها على عهدته، فلا بدّ له من أن يحافظ عليه محافظة تامّة ويراقبه مراقبة جميلة؛ لكي يحفظه على الحضرة والحضور، ويقوم بأدب المقام المقدّس، ويغتنم هذا الاجتماع المقدّس، ويعظّم توجّه ملائكة الله وتأييدهم إيّاه، ويعرّفه من النعم لوليّ النعمة الحقيقيّ، ويقدّم عجزه وقصوره عن شكر هذه النعم العظيمة إلى مقامه المقدّس، إنّه وليّ النعم.
(*) من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، الفصل الخامس (في آداب الحيّعلات).