الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾
صدق الله العلي العظيم
يُعلِم الله سبحانه وتعالى البشر، عن طريق الوحي الإلهيّ الموجّه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بأنّكم أيّها الناس في خطر الوسواس.
* ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾
يعالج القرآن الكريم هذه المشكلة وهذا المرض بالأسلوب العلميّ النفسيّ التربويّ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾. فالله هو خالقنا وربّنا وإلهنا، وهو الذي أوجدنا، وهو معنا ولا يتركنا، ويعلم ما توسوس به أنفسنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو الذي خلق الشيطان والجنّ والإنس والوسواس الخنّاس لاختبار الإنسان ومحاسبته. فعندما نلجأ إلى الله، فإنّنا نلجأ من هذه الوساوس والدعوات الكاذبة الفاسدة إلى من هو أقوى منّا ومن الوسواس الخنّاس، فنرتاح نفسيّاً.
*الوسواس
تعني كلمة "وسواس" الصوتَ الخفيّ الخافت، حديث النفس، وما يسمعه الإنسان من الخواطر والأفكار والتصوّرات الخفيّة التي لا تبرز للعوامّ، ولا تُسمع في مسامع الآخرين، والتي توجب انحراف الإنسان. وهي تُطلَق على ما لا خير فيه، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ (ق: 16).
* الخنّاس
الخناس والخُنَّس والخَنَس: بمعنى الشيء الذي يظهر ثمّ يختفي: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ*الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ (التكوير: 15-16). الخُنَّس هنا تعني النجوم التي تلمع ثمّ تختفي. إذاً، الخنّاس هو ذلك الموجود الذي يبرز ثمّ يتوارى، يأتي ويذهب كأنّه يراقب الناس؛ فحينما يكون الإنسان غافلاً، يأتيه الوسواس، وحينما يجده متنبّهاً واعياً متوكّلاً على الله، يتغيّب. هذه الوسوسة مستمرّة مع أيّ إنسان في العالم، حتّى إنّنا نسمع أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "يا دنيا غرّي غيري"؛ هذه الجملة دليل على أنّ الدنيا كانت تحاول إغراء الإمام، ولكنّه عليه السلام كان أمنع من أن يغترّ بها.
فكلّ فرد منّا في خطر الوسوسة من قِبل الخنّاس؛ فثمّة خواطر كثيرة، وإغراءات فاسدة، وشكوك تبعث على الضلال، ومواعظ سيّئة تلج إلى صدورنا: ﴿الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ*الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾.
* ﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾
من هو الخنّاس؟ ومن هو الغائب الحاضر الذي يوسوس ويغري ويؤدّي إلى انحراف الإنسان بين حين وآخر، ويكون لنا بالمرصاد؟
هذا الموجود على نوعين: نوع خفيّ وهو الجِنّة، ونوع ظاهر وهو الإنسان. يقول الله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ﴾ (الأنعام: 76)، و﴿وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ (النجم: 32)؛ بمعنى الجنين. الجُن والجَن والجنين والجِنّة، الشيء الخفيّ، وبهذا يصبح الجنّ هو كلّ شيء خفيّ.
ما حقيقة الجِنّ؟ اقرأوا سورة الجنّ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾ (الجن: 1)، ثمّ يذكر القرآن الكريم أحكاماً حول الجنّ بأنّ منهم قاسطين ومنهم مؤمنين، وأنّهم كانوا يجلسون مقاعد للسمع، وأنّهم ابتعدوا، وأنّ عليهم أحكاماً وتكاليف.
* ما هي حقيقة الجِنّ؟
نحن نؤمن بأنّ الجنّ موجود وهو خافٍ عنّا، ونؤمن بأنّه خُلِقَ من نار، كما أنّ الإنسان خُلِقَ من طين، وهو موجود مكلّف، عليه واجبات، ومحرّمات، وتكاليف، قسم من الجنّ صالح ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ﴾ (الجنّ: 11)، وقسم آخر قاسط عن الدين، كما ورد في القرآن الكريم ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾ (الجنّ: 14).
* خرافات لا أصل لها
تنتشر الكثير من الخرافات بين الناس، مثل: إنّ الجنّ يأتي إلينا في الحمّام منفرداً، أو يضرب أو يُسقط المرأة الحامل، أو يدخل في القطّة السوداء، أو كتب الكتاب، أو تسخير الجِنّ. هذه خرافات باطلة ناتجة عن رواسب الشرك في نفس الإنسان، وليس لها أصل أبداً، وهي أباطيل مردودة لأصحابها، نحن لا نؤمن بها.
* وسوسة الجنّ والإنس
هذه السورة تلقي بعض الضوء أيضاً على حقيقة الجنّ؛ لأنّ الجنّ يؤثّر في خلق الوسوسة وفي إغراء البشر، كما أنّ الإنس يلعب هذا الدور كذلك. فإنْ كنّا لا نشعر بوسوسة الجنّ، فإنّنا نشعر بوسوسة الإنس. هل شعرتم بذلك؟ هل رأيتم صديق السوء كيف يفعل ذلك؟ وكيف يجعل الإنسان منحرفاً عن الطريق؟ هل رأيتم الولد والابن الفاسد كيف ينحرف ويسلك مسالك السوء؟ هل رأيتم الأخ الفاسد، والعائلة الفاسدة، والرجل الفاسد؟ فالصديق الفاسد هو ﴿الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾، والولد الفاسد كذلك، والأهل الفاسدون هم الوساوسة الخُنَّس الذين يحرّكون الإنسان ويدفعونه إلى الانحراف عن الخطّ الصحيح.
فقد يتراءى لشخص جالس في دكّانه، أنّه إذا باع واشترى بما يرضي الله، قد لا يحقّق الأرباح الكثيرة ويبقى فقيراً، أمّا إذا اشتغل بالحرام، والربا، والغشّ، وسوء المعاملة، فقد يربح ويصبح غنيّاً! هذه هي وسوسة الجنّ، حيث يقول الله تعالى: ﴿الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾، وفي قوله: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء﴾ (البقرة: 268).
فهذه الوساوس تعمل على تثبيط الهمّة، وتقليل العزيمة، وبعث التخوّف إلى نفس الإنسان. فالإنسان سالك في طريق الكون، سائر نحو الجهاد، قادر على المشقّات، وقد يفكّر ويقول: لماذا يجب عليّ أن أجاهد أو أحارب؟ ما حاجتي إلى كلّ هذه المشقّات والمشاكل؟ اترُك الخطّ، اترُك الجهاد؛ هذه وسوسة، وهي تأتي إلينا إمّا بواسطة شخص منحرف فاسد، أو بواسطة عامل نحن لا نراه، ولكنّنا نشعر بهذا الهاجس وهذه الخاطرة والشكوك والأوهام في أنفسنا، فتحطّ من عزيمتنا وتقلّل همّتنا، فنضعف ونيأس.
* "لا تعوَّدوا الخبيث"
إذا سلكنا الطريق دون أن نبالي بالوساوس، فما هي النتيجة؟ النتيجة أنّ هذه الوساوس تذبل مع الوقت، وتخفّ وتضعف وتموت.
إذا أردنا أن نتّخذ كثير الشكّ في الصلاة مثلاً، فإنّ حكمه أن لا يعتني بشكّه، حيث تُعتبر صلاته صحيحة، لماذا؟ حتّى يعدم هاجسه بهذا الشكّ، ثمّ يضعف شكّه، ويخفّ، ويموت. والإمام الصادق عليه السلام يقول في توضيح هذا الحكم: "لا تعوَّدوا الخبيث"؛ أي لا تجعلوا الشيطان يعتاد على ذلك؛ لأنّه يطمع بنا. وهذه الوساوس وكلّ قوى الشرّ في المنطق الدينيّ، من جنود الشيطان. فعندما نخضع لحكم الشيطان، ثمّ نتطهّر ونتوضّأ ثانيةً، أو نعيد الصلاة مجدّداً، فإنّ الشيطان يتقوّى ويسيطر علينا، ويتحكّم بنا. أمّا إذا لم نستجب له، ولم نخضع لأمره، فإنّه يضعف ويضعف حتّى ينتهي الشكّ.
وهكذا، إذا رأيتَ نفسك ضعيفةً أمام هذه الهواجس والخواطر، اقرأ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، ج10، إعداد وتوثيق: يعقوب ضاهر، ص238، بتصرّف.