الشيخ د. فادي ناصر
إنّه القرآن الكريم، كتاب الله الذي يطرح حلولاً فكريّة وعلاجات عمليّة لخلاص الإنسانيّة من تيهها العظيم، حلولاً ينبغي التوقّف عندها، والتأمّل فيها، ودراستها دراسة وافية.
القرآن الكريم، كان الاهتمام به ورعايته من المميّزات الخاصّة بنهج الإمام الخمينيّ قدس سره، وقد غرس جذوراً قرآنيّة في وعي الشباب، ليكون دليلاً لهم في تهذيب النفس والسير إلى الله. كيف؟
•القرآن.. رحمة الله
يصف الإمام روح الله الخمينيّ قدس سره القرآن الكريم؛ بأنّه "كتاب الرحمة الإلهيّة الكبرى"، الذي يهدف إلى إيصال الإنسان إلى السعادة ونجاته من الضلالة، فمن أراد الاتصال برحمة الله الواسعة ما عليه إلّا أن يرتبط بهذا الكتاب ارتباطاً صحيحاً وأصيلاً: "هذا القرآن هو أكبر رحمة إلهيّة، فإن كنت تطمع في رحمة أرحم الراحمين وتأمَل رحمته الواسعة، فاستفد من هذه الرحمة، فإنّه قد فتح طريق الوصول إلى السعادة، وبيَّن طريق الهداية من الضلالة"(1).
•القرآن والدعوة إلى معرفة الله
بحسب الإمام الخمينيّ قدس سره، الهدف الأساس من إنزال القرآن إلى هذا العالم وصيرورته على كسوة الألفاظ وصور الأحرف والكلمات، هو خلاص المسجونين في سجن الدنيا المظلم، ونجاة المغلولين بأغلال الآمال والأمانيّ، وإيصالهم من حضيض أهواء النفس الأمّارة بالسوء، والشهوات الحيوانيّة إلى أوج الكمال والرفعة الإنسانيّة، وذلك من خلال معرفة حقيقة القرآن، ومعرفة أهدافه ومقاصده، التي يلخّصها الإمام بمعرفة الله ومعرفة توحيده، لأنّها الأصل الذي تأسّست عليه الفوائد الأخرى كلّها: "وعلى نحو كلّيّ، أحد مقاصده المهمّة الدعوة إلى معرفة الله وبيان المعارف الإلهيّة من الشؤون الذاتيّة، والأسمائيّة، والصفاتيّة، والأفعاليّة، وأكثرها مطلوبيّة هو توحيد الذات، والأسماء، والأفعال"(2).
•على قدر الاستعداد والجهد
مع أنّ ثمّة من قد يشكّك في إمكانيّة حصول المعرفة التوحيديّة بالله لكلّ البشر وحصرها بفئة محدّدة ممّن لديهم الأهليّة والقابليّة لذلك، إلّا أنّ الإمام قدس سره ينفي هذا الادّعاء، ويُصرّح بأنّ كلّ إنسان لديه حظّ ونصيب من هذه المعرفة القرآنيّة التوحيديّة على قدر استعداده وجهده: "وليعلم، أنّ المعارف من معرفة الذات إلى معرفة الأفعال، قد ذكرت في هذا الكتاب الجامع [القرآن] على نحو تدركه كلّ طبقة على قدر استعدادها"(3).
إذاً، القرآن هو كتاب معرفة الله، هذه المعرفة التي تعدّ الهدف الحقيقيّ لخلق الإنسان ﴿اللَّهُ الَّذي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْما﴾(الطلاق: 12).
•نقطة البداية
نقطة البداية وشرارة الانطلاقة الأولى للاستفادة الحقيقيّة من القرآن الكريم، بحسب رأي الإمام الخمينيّ قدس سره، تبدأ من النفس. فالاستفادة من القرآن لا تتحقّق إلّا إذا كان المكان الذي سوف يتجلّى فيه القرآن طاهراً. من هنا، يرى الإمام أنّ طهارة النفس وتزكيتها من الشوائب والحجب كلّها هما السبيل لتحقّق الرابطة العمليّة والارتباط الصحيح بمعارف الكتاب الإلهيّ وحقائقه العلميّة: "لو لم تكن التزكية، لما أمكن تعليم كتاب الحكمة. يجب تزكية النفوس وتطهيرها من جميع الأدران، وأعظم الأدران هي النفس الإنسانيّة والأهواء النفسيّة. فما دام الإنسان في حجاب نفسه، فإنّه لا يستطيع أن يدرك القرآن الذي هو نور، كما يعبّر القرآن عن نفسه... الذين يريدون فهم القرآن ومحتواه، لا صورته النازلة المحدودة، وأن يزدادوا سموّاً ورقيّاً كلّما قرأوه، وأن يقتربوا من مصدر النور والمبدأ الأعلى كلّما قرأوه(4)، فإنّ هذا لا يتحقّق إلّا بعد أن تزول الحجب، و(إنّك بنفسك حجاب لنفسك)"(5).
•آداب التمسّك بالقرآن الكريم
للتمسّك بالقرآن الكريم آدابٌ ظاهريّة وباطنيّة، من دون مراعاتها لن تتجلّى فينا آثار القرآن النورانيّة. أمّا آدابه الظاهريّة، فهي ما ورد في الأحكام الفقهيّة والرسالة العمليّة، من الطهارة، والاستعاذة، ومراعاة قواعد الترتيل والتلاوة، والمقدار المستحبّ للقراءة، وغيرها من الأحكام. وبما أنّ لهذا القرآن ظاهراً وباطناً، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ القرآن له ظهر وبطن"(6)، يرى الإمام قدس سره أنّ مراعاة هذه الأحكام الباطنيّة، والتي يذكرها في كتابه الآداب المعنويّة للصلاة(7) على نحو تفصيليّ، تُعدّ شرطاً أساسيّاً لتحقّق الاستفادة الواقعيّة من الكتاب الإلهيّ. ونذكر على نحو الاختصار هذه الآداب التي يصطلح عليها الإمام قدس سره بالآداب المعنويّة للتمسّك بالقرآن الكريم، وهي:
1- تعظيم القرآن: وهو أدبٌ يمارسه العقلاء بالوجدان، وينشأ من خلال إدراك عظمة شيءٍ ما. وبما أنّ القرآن الكريم، وَفق الرؤية الإسلاميّة، هو الغنى والكمال الذي لا كمال فوقه ولا حدّ له، كما يقول الإمام قدس سره؛ لذا فهو قد حوى جميع مراتب العظمة الممكنة، بل هو أعظم شيءٍ في الوجود. فمنزله هو الله سبحانه وتعالى، وحامله جبرائيل أمين وحي الله، وشارحه ومبيّنه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل خلق الله وأفضل أنبيائه ورسله، وخلفاؤه العظام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ووقت تنزيله في ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. وبمقدار ما تتجلّى عظمة القرآن في قلوبنا، نتمكّن من الاستفادة منه والجلوس على مأدبته بخشوعٍ بهدف التعلّم والهداية. فالاستفادة الحقيقيّة من القرآن الكريم غير ممكنةٍ من دون معرفة عظمته واستحضارها دوماً.
2- معرفة أهداف القرآن: لم ينزّل الله تعالى كتابه إلى الناس لغواً وعبثاً، بل لأهدافٍ واضحة ومحدّدة. وإنّ لمعرفة هذه الأهداف واستحضارها دوراً أساسيّاً للاستفادة منه. يمكن أن نلخّص هذه الأهداف كما ذكرها الإمام قدس سره في كتاب الآداب المعنويّة للصلاة بالتالي: الهدف الأوّل والأخير لهذا الكتاب الشريف هو "هداية الإنسان إلى الله تعالى". ويتفرّع عن هذا الهدف الأساسيّ أهدافٌ أخرى كلّ واحد منها يأخذ بيد الإنسان إلى المقصد النهائيّ.
وعلى قارئ القرآن أثناء تلاوته لكتاب الله، البحث عن مغزى كلّ آية ومقصدها، والوقوف عند هذا المقصد، ومن ثمّ ربطه بالهدف الأساسيّ؛ وهو نسج خيوط الارتباط الصحيح بين الخالق والمخلوق، لكي تتحقّق الهداية المطلوبة والفائدة المرجوّة.
3- التفكّر والتدبّر: التفكّر هو البحث عن المقصد والمقصود في الآيات. وحيث إنّ مقصد القرآن هو الهداية إلى سبل السلام والخروج من الظلمات إلى النور، فعلى القارئ أن يتفكّر في الآيات باحثاً عن الهداية والنور فيها. فقد جعل الله تعالى التفكّر غاية إنزال هذا الكتاب السماويّ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44)، وحذّر من الغفلة عن هذا الأدب؛ لأنّ في ذلك الخسران المبين: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾(محمّد: 24).
4- التطبيق: وهو من الآداب المعنويّة الأساسيّة. والمقصود منه تطبيق ما تعلّمه الإنسان من القرآن على نفسه. فعندما يتفكّر القارئ في الآيات الشريفة وينظر إلى أهدافها، عليه أن يستخرج منها الأمور العملية ويقوم بتطبيقها على نفسه.
5- رفع الموانع وإزالة الحُجُب: من الآداب المهمّة التي يتحدّث عنها الإمام قدس سره ويعتبرها ضروريّة أيضاً، هي رفع الموانع والحُجب كما يسمّيها، التي تحول بين القارئ والهدف المرجوّ من قراءته: "اللازم على المتعلّم والمستفيد من كتاب الله أن يجري أدباً آخر من الآداب المهمّة، حتّى تحصل الاستفادة، وهو رفع موانع الاستفادة. ونحن نعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن"(8).
وأهمّ هذه الموانع:
1-حجاب رؤية النفس مستغنية عن القرآن.
2-حجاب الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة التي يمكن أن تصدر بحقّ القرآن وما يتضّمنه من كنوز علميّة ومعرفيّة.
3-حجاب الذنوب والمعاصي؛ لأنّ القلب هو محلّ انعكاس أنوار القرآن.
4-حجاب حبّ الدنيا؛ لأنّ التعلّق بالدنيا يصرف القلب عن القرآن، ويجعل تمام همّة الإنسان في عمارة الأرض، فيغفل عن الآخرة. ولأنّ القرآن دعوةٌ إلى الآخرة والكمالات المعنويّة، فإنّ الطالب للدنيا قد يراه مخالفاً لمشتهياته ورغباته، وسدّاً أمام تحقيق مآربه، فتنفر النفس منه ويعرض عنه. وهذه هي عاقبة الإقبال على الدنيا وزينتها.
فلنستفد من مدرسة الإمام قدس سره، التي دعت إلى أن يكون القرآن جزءاً من حياة المؤمن، وفكره، ودافعاً إلى سلوكٍ يصل به إلى القرب.
1.الآداب المعنوية للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، المقالة الأولى، الفصل الثامن، في بيان حضور القلب.
2.(م.ن)، الفصل الثاني، في بيان مقاصد الكتاب الشريف.
3.(م.ن).
4.إشارة إلى حديث مرويّ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "عدد درج الجنة عدد آيات القرآن، فإذا دخل صاحب القرآن الجنّة قيل له: اقرأ وارق، لكل آية درجة، فلا يتكوّن فوق حافظ القرآن درجة".
5.منهجيّة الثورة الإسلاميّة، (مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخمينيّ قدس سره)، ص 90.
6.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج25، ص10.
7.الآداب المعنويّة للصلاة، (م.س)، المقالة الثالثة، الباب الرابع، المصباح الأول.
8.(م.ن)، الفصل الرابع، في بيان رفع الموانع والحجب بين المستفيد والقرآن.