صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

بـيـعـةٌ بين الركن والمقام

الشيخ د. علي جابر(*)
 

جاء في دعاء العهد، الذي يدعو به المؤمنون بعد صلاة الصبح في زمن الغيبة: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُجَدِّدُ لَهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِي هَذَا، وَمَا عِشْتُ مِنْ أَيَّامِي، عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً لَهُ فِي عُنُقِي لا أَحُولُ عَنْهَا وَلا أَزُولُ أَبَداً".

للبيعة في المستقبل المهدويّ أهميّة كبيرة، فهي انتصار للحقّ الذي يمثّله الإمام المهدّي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ورفض للظلم والظالمين على مدى التاريخ، وطلبٌ للعدل في الأرض.

 
* معنى البيعة والغاية منها
من المعلوم في اللغة والعرف، أنّ البيعة هي تعهّد بالتزام أمر محدّد ومطلوب يؤدّيها المبايِع (بالكسر) لمن يستحقّها وهو المبايَع (بالفتح)، وهذا في البيعات الشرعيّة، كالبيعة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأولي الأمر.
وقد بايع المسلمون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيعة الإسلام، وبيعة الرضوان المعروفة ببيعة الشجرة، والبيعة على السمع والطاعة في كلّ شيء، وغيرها من البيعات.

فالغاية الأساس من البيعة للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما في أيّة حركة إيمانيّة، هي دعوة الأنصار إلى السمع والطاعة وتأكيد الالتزام بها، وأنّ الوفاء بهذه البيعة هو وفاء مع الله تعالى كما في حديث الراية، فقد روى القندوزي الحنفيّ عن نوف البكالي أنّه قال: "راية المهديّ فيها مكتوب البيعة لله"(1)، وهو ما يؤكّد أهميّة البيعة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف وأنّها عهد مع الله تعالى.

* مراحل البيعة للإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف
عندما نطالع الروايات المتعلّقة بظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، نجد البيعة حاضرة من خلال وقائع متعدّدة، نحاول أن نتّبعها لتكوين صورة وافية عنها.

1- "أنا أولى الناس":
تؤكّد الروايات أنّ أوّل ما يفعله الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف عندما يأذن الله تعالى له بالظهور، أنّه يعلن عن نفسه ويُعرّف العالم به، ويقول في أوّل خطبة يلقيها مسنداً ظهره إلى البيت الحرام ومستجيراً به: "يا أيّها الناس، إنّا نستنصر الله، فمن أجابنا من الناس فإنّا أهل بيت نبيّكم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن أَولى الناس بالله وبمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فمن حاجّني في آدم فأنا أَولى الناس بآدم، ومن حاجّني في نوح فأنا أَولى الناس بنوح، ومن حاجّني في إبراهيم فأنا أَولى الناس بإبراهيم، ومن حاجّني في محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فأنا أَولى الناس بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن حاجّني في النبيّين فأنا أَولى الناس بالنبيّين، أليس الله يقول في محكم كتابه: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران: 33 - 34)؟ فأنا بقيّةٌ من آدم، وذخيرةٌ من نوح، ومصطفى من إبراهيم، وصفوةٌ من محمّد صلّى الله عليهم أجمعين..."(2).

2- طلب البيعة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف:
ثمّ يطلب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف من الناس البيعة لنصرته ومؤازرته لقيادتهم على منهاج النبوّة والسنّة الصحيحة. فقد روى الشيخ المفيد عن المفضل بن عمر الجعفيّ قال: سمعت أبا عبد الله الصادق عليه السلام يقول: "إذا أذِنَ الله عزّ اسمُه للقائم في الخروج صعد المنبر، فدعا الناس إلى نفسه، وناشدهم بالله ودعاهم إلى حقّه، وأن يسير فيهم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعمل فيهم بعمله..."(3).

3- أوّل من يبايع:
حتّى تكون البيعة إلهيّة، وقبل أن تنعقد من البشر للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، يبعث الله تعالى جبرائيل عليه السلام ليكون أوّل من يبايع. ففي رواية المفضّل عن الإمام الصادق عليه السلام الآنفة الذكر: "فيبعث الله جلّ جلاله جبرائيل عليه السلام حتّى يأتيه فينزل على الحطيم، يقول له: إلى أيّ شيء تدعو؟ فيخبره القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف، فيقول جبرائيل: أنا أوّل من يبايعك، ابسط يدك، فيمسح على يده، وقد وافاه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فيبايعونه، ويقيم بمكّة حتى يتمّ أصحابه عشرة آلاف نفس، ثمّ يسير منها إلى المدينة"(4).
ومن غير الواضح، إذا كانت هذه البيعة مشهودة من الناس وأنّهم شاهدوا جبرائيل عليه السلام، ومن الممكن أن يدلّ عليها دليل يعرفه الناس في حينه.

4- مكان البيعة:
يظهر من الأخبار أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يُبايَع عند الكعبة المشرّفة بين الركن والمقام، وهي أُولى البيعات من الناس، فعن جابر الجعفيّ قال: قال أبو جعفر عليه السلام: "يبايع القائم بين الركن والمقام ثلاثمائة ونيف، عدّة أهل بدر، فمنهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق، فيقيم ما شاء الله أن يقيم"(5).

5- زمان البيعة:
تُجمع الروايات عن أهل البيت عليهم السلام أنّ الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يخرج بإذن الله تعالى يوم عاشوراء، ويصرّح بعضها أنّه يكون يوم سبت، وفي سنة وِتر (عدد مفرد). فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "لا يخرج القائم إلّا في وتر السنين، سنة إحدى أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع"(6).
وفي رواية أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "يخرج القائم يوم السبت يوم عاشوراء، اليوم الذي قُتل فيه الحسين عليه السلام"(7).
وعنه عليه السلام: "إنّ القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف يُنادى اسمه ليلة ثلاث وعشرين [يعني من شهر رمضان]، ويقوم يوم عاشوراء، يوم قُتل فيه الحسين بن عليّ عليه السلام"(8).

6- مضمون البيعة:
ذكرت بعض الأخبار مضمون البيعة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهي شروط يأخذها على أصحابه، وفيها تركيز على ترك المحرّمات وبعض المباحات التي يكون فيها ترف ورفاهيّة تنافي روح الجهاد والاستعداد للتضحية، مضافاً إلى سلوك خاصّ وآداب وأخلاق رفيعة.
ونظراً إلى أهميّة هذه الشروط، ننقل الرواية بتمامها. وقد رُوي في بعض الكتب(9) في حديث طويل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "إنّه يأخذ البيعة من أصحابه على أن لا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يسبّوا مسلماً، ولا يقتلوا محرماً، ولا يهتكوا حريماً محرماً، ولا يهجموا منزلاً، ولا يضربوا أحداً إلّا بالحقّ، ولا يكنزوا ذهباً ولا فضّة، ولا برّاً وشعيراً، ولا يأكلوا مال اليتيم، ولا يشهدوا بما لا يعلمون، ولا يخرّبوا مسجداً، ولا يشربوا مسكراً، ولا يلبسوا الخزّ ولا الحرير، ولا يتمنطقوا(10) بالذهب، ولا يقطعوا طريقاً، ولا يخيفوا سبيلاً، ولا يفسقوا بغلام، ولا يحبسوا طعاماً من برّ أو شعير، ويرضون بالقليل، ويشمّون على الطيب، ويكرهون النجاسة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويلبسون الخشن من الثياب، ويتوسّدون التراب على الخدود، يجاهدون في الله حقّ جهاده.
ويشترط على نفسه لهم، أن يمشي حيث يمشون، ويلبس كما يلبسون، ويركب ما يركبون، ويكون من حيث يريدون، ويرضى بالقليل، ويملأ الأرض بعون الله عدلاً كما مُلئت جوراً، يعبد الله حقّ عبادته، ولا يتّخذ حاجباً ولا بوّاباً"(11).

عندما نتأمّل في نصّ البيعة للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف من أصحابه في زمن حضوره المبارك، ندرك أنّنا نحن المنتظرين مخاطَبون بها في زمن غيبته، فهذه الأوصاف هي مواصفات أنصاره في كلّ زمان، سواء المنتظر أو الحاضر عند ظهوره المبارك، ويحصلون من خلالها على اللياقة ليكونوا أنصاراً للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.

* مبايعة روحيّة وعمليّة
إنّ مبايعة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف تربط المؤمن بإمامه روحيّاً، فهو الوسيلة إلى الله تعالى: ﴿وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة: 35)، وتضعه على جادّة الولاية، التي هي أساس الإسلام المتين، ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (المائدة: 56)، وتوقد في روحه جذوة المحبّة لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، وبهذه الروح يحرص على تأدية تكاليفه الشرعيّة ومسؤوليّاته الاجتماعيّة ليكون ممهّداً وناصراً للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.

 
(*) أستاذ في الحوزة العلميّة.
(1) منتخب الأثر، لطف الله الصافي الگلبايگاني، ص324، ح1.
(2) الغيبة للنعماني، باب 14، ح67.
(3) الإرشاد، المفيد، ص282-383.
(4) (م.ن).
(5) منتخب الأثر، (م.س)، ص468.
(6) الإرشاد، (م.س)، ص378؛ الغيبة، (م.س)، ص274.
(7) إكمال الدين وإتمام النعمة، الصدوق، ج2، ص653.
(8) الغيبة، (م.س)، ص274.
(9) كعقد الدرر على ما حكى عنه في كشف الأستار، وفي كتاب الفتن لأبي صالح السليلي على ما حكى عنه في الملاحم والفتن.
(10) التمنطق: شدّ الوسط بمنطقة التحزُّم.
(11) منتخب الأثر، (م.س)، ح4، ص468-469.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع