الشهيد السعيد آية الله مرتضى مطهري
1- تقوية الإرادة
ذكرنا سابقاً أن إحدى الاستعدادات التي يجب أن تقع مورد التربية هي الإرادة. وقد بيّنا الفرق بين الإرادة والميول. فالبعض أخطأ حين اعتبر أن الإرادة من مقولة الميل أو عبارة عن الميل الشديد.
فالإرادة هي قوة أخرى في الإنسان ترتبط بعقله خلافاً للميل الذي يرتبط بطبيعته. والميل هو نوع من الانجذاب ينشأ نتيجة وجود الأشياء التي تهم الإنسان ويحتاج إليها، وكلما اشتدت درجة الميل، سُلب الاختيار عن الإنسان أكثر. وهذا يعني أن الإنسان يكون مسخراً لقوة خارجة عن نفسه، على عكس الإرادة التي هي قوة داخلية.
فالإنسان الذي يمتلك إرادة قوية يحرر نفسه من تأثير القوى الخارجية ويعطيها الاستقلالية. وكلما قويت الإرادة، زيد على اختيار الإنسان ليصبح مالكاً لنفسه أكثر ومسلطاً على أفعاله ومصيره.
* السيطرة على النفس
ما ورد في التعاليم الإسلامية بالنسبة للإرادة والسيطرة على النفس جاء تحت عنوان التقوى والتزكية. ومن كثرة ما جاء لا يوجد ضرورة لأن نأتي بشاهد يدل على أن الإسلام أولى اهتماماً بمسألة تقوية الإرادة. وكنموذج، أنقل جملة من نهج البلاغة تمثل معاني رفيعة جداً في هذا المجال.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الخطايا: "إلا وأن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها".
فنحن نعلم أن الخطايا تنشأ من وقوع الإنسان تحت تأثير الشهوات والميول النفسانية التي تخالف العقل والإيمان وهذا يعني أن الخطايا عبارة عن فقدان الإنسان للسيطرة على نفسه. وفي المقابل تأتي التقوى: "إلا وأن التقوى مطايا ذلل".
كالمركب الهادئ الذي هو بعكس الخيول الجافلة. فإن التقوى تسير بالإنسان حيث يريد.
في العالم كله، لم تظهر مدرسة تربوية سواء كانت مادية أم إلهية وتقول: كلا، لا ينبغي تقوية الإرادة، أو تقول أن الإنسان ينبغي أن يكون تابعاً لميوله ومستسلماً لها.. نعم، أكثر الناس في هذا العالم هكذا، ولكن لا توجد مدرسة واحدة تدعي تربية الإنسان وتدعو لذلك. ولقد قال سارتر وأمثاله (من الوجوديين) أموراً حول موضوع الحرية تكون نتيجتها المنطقية هكذا، وقد انتقد كثيراً، ولهذا وصل الأمر شيئاً فشيئاً إلى الدرجة التي أصبحت الوجودية في أوروبا مساوية للتفلت وتبعية الغرائز والشهوانية. ولكن الوجوديين أنفسهم قاموا فيما بعد ليقولوا أن الناس قد أساؤوا استخدام أفكارنا، وأن مدرستنا لا تقول ذلك.
* الإيمان ضامن حكومة الإرادة
مقصودي من هذا الأمر أنه لا يوجد في العالم أية مدرسة تحمل أدنى شك حول موضوع حكومة الإرادة على ميول الإنسان. إنما البحث يدول حول ضمانة تنفيذ هذا الأمر وطريقه. فهل أن ما ذكرناه حول الإرادة وحكومة العقل كاف (بحيث تكون الإرادة عبارة عن القوة التنفيذية للعقل)، وبمجرد أن يأمر العقل تحكم الإرادة على الميول؟!
ما هو الشيء الذي يضمن حكومة العقل والإرادة على الميول؟
وهذه المسألة من القضايا التي يتمسك بها المذهبيون، ويقولون أن الإرادة هي القوة التنفيذية للعقل. ولكن هذا العقل ما هو؟ وماذا يمكن أن يفعل؟ فليس العقل سوى الإضاءة والكشف. فهل هذا يا ترى يجعل الإنسان يتجه نحو المقصد، ويأمره بذلك. فالإنسان يتجه نحو ما يريده ويستفيد من مصباح العقل لأجل الوصول إلى ما يريد. أما المشكلة فهي ما يريده الإنسان؟ ولا يوجد نقاش في حاجة الإنسان للعقل كمصباح يضيء له الطريق. فالإنسان إذا سار في الظلمات أضاع نفسه. ولكن الكلام في العقل والعلم- الذي هو في الواقع مكمّل للعقل وبعبارة أخرى هو العقل المكتسب- هل هما كافيان لجعل الإرادة تتحكم بالميول؟ والجواب: كلا.
لماذا؟ لأن الإنسان بحد ذاته يسعى باتجاه منافعه، أمّا الإرادة فإنها تحكم الميول بمقدار ما تقتضيه هذه المنافع.
ومن هنا، إذا لم يظهر ذلك الشيء الذي يعطي للإنسان رغبات تفوق تلك المنافع فلن يكون للعقل والإرادة أي دور. وذلك الشيء هو ما نعبّر عنه بالإيمان. وهو القادر على أن يمنع الإنسان من الانغماس في المصالح الخاصة ويقدم له رغبات أعلى من المنافع المادية والفردية. وهناك يتقدم العقل بالإنسان نحو تلك الرغبات، لأن العقل يهدي الإنسان إلى كل مطلوب يريده لأنه مصباح. أنتم عندما تحملون مصباحاً في الظلمات فإن هذا المصباح لا يقول لكم اذهبوا بهذا الاتجاه أو ذاك بل يقول لكم إلى أين ذهبتم فأنا أضيء لكم.