لم يكن أرسطو مبتدعاً لعلم المنطق، ولا كان هو الذي أسس كل قواعده، بل المنطق بدأ مع ابتداء البشرية كفكر وكأسلوب إعمال النظر والعقل، وباستطاعتنا أن نرى إرهاصات ذلك مع المفكرين والفلاسفة، وقد كان جلياً مع الفيثاغوريين وهيراقليطس حتى نضج عند سقراط وأفلاطون. ثم إن المنطق لم يكن وليد دولةٍ واحدة أو مدرسةٍ واحدة، بل اشتهر في شرق الأرض عبر المنطق الهندي، وانتشر في غربها عبر المنطق اليوناني، وإن المقتفين لآثار هاتين المدرسين يجد، مع بعد المسافة وامتناع التواصل، تطابقاً غير عادي في المقولات المنطقية(1)، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمد التفكير وأصالته مع الإنسان، وإن ما يصنعه المنطقي هو محاولة اكتشاف هذه البديهة.
فالاستدلال فطري عند الإنسان ولد معه حتى في المجتمعات البشرية الأولى "فمن منا لا يحصل له العلم بوجود النار عند رؤية الدخان ومن ذا الذي لا يتوقع صوت الرعد عند مشاهدة البرق.. هذه الاستنتاجات الواضحة.. لا يخلو منها ذو شعور.. وقد تعجب لو قيل لك إن 99 في المئة من الناس هم منطقيّون.
ومع تطور البشرية أصبح المنطق أساس الفلسفة خصوصاً مع اعتبار الفلسفة ترتيباً للقضايا المنطقية.
وهكذا حتى صار الأمر إلى النضج البشري مع الفلاسفة العظام مثل سقراط (469 ـ 399ق.م.) الذي كان رأس الحربة في مواجهة الفكر السوفسطاي الغوغائي الذي كان لا يعترف بوجود حقائق ثابتة، وينفي إمكانية اليقين، وتنوعوا بين الشكاكين واللاأدريين. فكانت مكان الصدارة عن سقراط مشكلة المنهج وأساسها هو الوصول إلى المعرفة عبر التصوّرات الكُليّة. وهذه المعرفة تتطب الحل، والفلسفة عنده حب الحكمة والبحث عنها وليس امتلاكها. وكانت الأهمية في منهج سقراط أن أي موضوع لا يفهم إلا إذا ردَّ إلى تصوّر عام حاكم عليه، وطريق سقراط هي علمه بجهله، وتدفعه حاجته للمعرفة لمخاطبة الآخرين لكي يُعلّموه ما يعرفونه. وهنا يدخل دور المنطق فيُقدّم طريقين لهذه المعرفة هما: الاستقراء، والتعريف.
وهكذا دخل في صراع مع أصحاب النزعة النسبيّة والذاتية، وأصبح لسقراط مذهب فلسفي مع تلامذته وقد انحرفت توجهاتهم نحو سوفسطائية جديدة لكنها منطقية وكان تلميذه أفلاطون وحده في مواجهتها.
ابتدأت نظرة أفلاطون من مذهب سقراط الذي يرى أن ماهيات الأشياء في تصوراتها الكليّة، لكن أفلاطون حوّل هذه التصورات إلى مُثل مطلقة في استق عن العالم المادي وعلى نحو مستقل، ولهذه المُثُل الأسبقية، ودور المادة هو دور المذكر لهذه المثل وهي ظلالها التي تنعكس فيها، لكن المثل أبدية غير متغيرة وهي عالم الوجود الحق. وهذا هو إبداع أفلاطون الذي اشتهر به. وبطبيعة نشاطه الكثيف في التعليم، كان باحثاً لحل مشكلة المعرفة والمنطق، وعنده بحث عن الحقيقة في النشاط الخالص للروح لا الحسيات. ومنهج البحث عنده في الاستعانة بالتصورات الخالصة "المثل" ولذا لا بد من تشكيل التصورات الكلية ثم تقسيمها إلى أنواعها والتصور يجب أن يكون تعريفاً لما هو جوهري في الأشياء. والتقسيم عند أفلاطون يُستعمل كل ما لا يتعلق به.
وهكذا كان حتى جاء أرسطو (384 ـ 322ق.م.) تلميذ أفلاطون بأطروحات ونظريات جعلته من أعظم علماء العصور القديمة بعد أن بقي تلميذاً عند أفلاطون عشرين سنة إلى أن أسس مدرسته (المشائية) بعد 12 سنة على وفاة أُستاذه.
يرى أرسطو أن الحقيقة هي تطابق الفكر مع الواقع مخالفاً أستاذه في المثل على أنها وحدها هي الحقيقة الأبدية، ويرى أن القوانين المنطقية (وهذا إشارة إلى أهمية وضع المنطق كعلم مستقل عند أرسطو) هي في المحل الأول قوانين للوجود، فهو يربط بين الفكر والواقع الخارجي وبهذا يختلف عن المنطق الصوري الذي يهتم بالفكر واتفاقه مع نفسه وفقاً لقانون واحد في كل العمليات العقلية وهو قانون (عدم التناقض).
لكن أرسطو كان مازجاً بين المادية والموضوعية والصورية لكن شراح أرسطو لم يعنوا إلا ما لناحية الصورة حتى أصبح المنطق وسيلة للتحدث من دون نظر عن الأشياء التي نجهلها بدلاً من تعلمها.
أما أرسطو فإن الإشكال المنطقية عنده تطابق أشكال الوجود نفسه وأشكال الفكر الحق هي انعكاس للعلاقات الواقعية. والمعيار عنده مادي: توافق الفكر والأشياء.
كانت هذه الأطروحات والنظريات الأرسطوطالية هي نسيج في آفاق رؤيته للمنطق كعلم شامل. إلى جانب ذلك كان أرسطو قد دعي (342ق.م.) من قبل الملك فيليب لتربية ولده الإسكندر "وكان عمره 13 سنة" فسافر لمقدونيا ودرّسه ثلاث أو أربع سنوات وبقي في مقدوينا ثمان سنوات. وبعدها عاد إلى أثينا وفتح مدرسة في حديقة (لوفيون) وباسمها عرفت المدرسة وكان يتمشى فيها أثناء إلقاء دروسه على الطلاب ولذا سُمّيت بالمدرسة المشائية وبعد الإسكندر ثار أهل أثينا على المقدونيين فرموا أرسطو بالزندقة وأنه عبد زوجته فاضطر لترك أثينا مهاجراً.
* أما مؤلفات أرسطو المنطقية فقد جُمعت تحت عنوان الأرغانون وتضم خمسة مؤلفات:
(أ) ا لمقولات، (ب) العبارة بالشرح (باري أرميناس)، (ج) أنالوطيقا، (د) التحليلات، (هـ) المواضع الجدلية، (و) نقض الأغاليط (سونطيقا).
إذاً وكما ذكرنا يختلف منطق أرسطو عن المنطق الصوري، أرسطو له معياران منطقيان معيار مادي بالانسجام مع الخارج ومعيار صوري بانسجام الأفكار مع بعضها.
المبدأ الفكري الأساسي عند أرسطو هو مبدأ التناقض ويقول إنه أشدّها يقيناً ويختصره: "يمتنع أن يصدق تقديران متضادان عن الشيء الواحد في آنٍ واحد" و"أن ما هو موجود، موجود، وما ليس موجوداً، ليس موجوداً" وهذا القانون الأسمى للوجود وأيضاً الأسمى للحقيقة، إن الحكم الواحد نفسه يمتنع أن يكون صادقاً وكاذباً في آنٍ واحد.
وأرسطو يؤمن بأنه "توجد حقيقة مطلقة من المستطاع ابتداءً منها قياس المستويات المختلفة للاقتران فيها". وفي طريق المعرل يواجه من يقول بأن المصدر الوحيد هو الإدراك الحسي فيفرق أرسطو بين الأشياء المتغيّرة التي تكون واقعة تحت هذا التفسير وبين الأشياء الثابتة والوجود الدائم فإنه خارج عن هذا الحكم وإلا لاستحالت الحقيقة. فالتصور عنده هو الوجود الواعي غير المتغيِّر. والمبدأ الثاني لأرسطو هو نرية الثالث المرفوع وهو "لا محل لوسط بين قضيتين متناقضتين، فلا ثالث بينهما، فهناك ضرورة مطلقة إما لإثبات شيء لشيء وإما لنفي شيء عن شيء أو يجب أن يكون الشيء إما موجوداً وإما غير موجود".
وهنا أيضاً يأخذ أرسطو قانون الثالث المرفوع على أنه قانون للوجود وبعدها يأخذه كقانون للفكر وهو مبدأ الناقض عنده معياري إقامة الحقيقة.
أما الحكم عند أرسطو فهو تركيب التمثلات ويصدق فيما نفهمه من حملٍ شيء على شيء وفي النفي يكون تحليلاً لمنفصلات تنفى عنها.
أما نظرية التصور عند أرسطو فهي تبدي تردده بين المادية والمثالية، وهنا فقد أبدع أرسطو في نقده لنظرية المثل لأستاذه، لكنه في الوقت نفسه يسلم بها باعتبارها "جواهر ثانوية" وهنا يطرح أرسطو أن العملية المنطقية التي تصعد بين تصورات حسية إلى تصورات عمومية ثم أكثر عمومية تكتمل بواسطة "المقولات" وهذه لا يمكن رد أحدها إلى الآخر وهي المقولات العشر (الجوهر، الملك، الفعل، المكان، الزمان...) ويقسم أجناس المحمولات أيضاً إلى: "تعري" الحداد الماهية و"علاقته الخاصة"، "الجنس"، "العرَض العام"، ثم أضاف فورفوريوس محمولاً خامساً وهو "الفصل النوعي"، وأما في استلالات أرسطو فأقر الاستدلال من خلال العكس وسماه عكس الأحكام.
ثم يقر بأن القياس استدلال ينتج من أحكام معطاة حكماً جديداً مختلفاً عنها والأهمية عنده والأولوية للمحمول لا للموضوع كما هو سائد الآن في المنطق التقليدي. ونظم الأشكال الثلاثية في القياس من الحدود التي قسمها إلى أوسط وأول وأخير أو أصغر وأكبر ويرى أن النتيجة تعينية، وتصبح لازمة للمقدمتين بخلاف الاستدلال الذي لا يؤدي إلى نتائج يقينية ويسميه (الاستدلال الجدلي). وهو تكلم عن استدلالات أخرى غير يقينية (جدلية، خطابية، سوفسطائية) لكن ليس هدفها التأسيس العلمي. ثم إنه يربط بين القياس والبرهان بحيث يضع كل منهما مكان الآخر.
ووضع البرهان غير المباشر على نفس نسق الأشكال الثلاثة في القياس. ومنها وضع أرسطو البرهان بحسب الفرض فيستدل بمساعدة فرض، ومن هذه البراهين غير المباشرة وضع البرهان بالخلف ويشتمل هذا البرهان على جزءين في الأول تثبت النتيجة بطريقة القياس وفي الثاني يقرر محال هذه النتيجة مع انضمام قانون الثالث المرفوع فتتم النتيجة.
أما الاستقراء فقد شغل مكاناً خاصاً في منطق أرسطو في نظريته للمعرفة، ويميّز بين استقراء كامل وناقص ويعتبر الكامل الاستقراء العلمي الوحيد. ويدرج أرسطو أنواعاً أُخرى كالاستدلال بالتمثيل ضمن البراهين الخطابية التي لا تؤدي إلى اليقين.
أما صناعة المغالطة (السوفسطات) فقد أفرد لها أرسطو مؤلفاً خاصاً سماه (نقض الأغاليط) "السفسطة" وهي تثبت أن البراهين السوفسطائية هي براهين وهمية ويقسم أرسطو الأغاليط المنطقية لأغاليط صادرة عن طريق التعبير عن الفكر (أغاليط في القول) وأغاليط في مسار الفكر (أغاليط خارج القول)، وأغاليط القول ردّها إلى ستة أنواع (اشتراك لفظي، التركيب، تركيب الألفاظ، تقسيم الألفاظ، البزة، خطأ الأعراب) وردّ أغاليط غير القول إلى سبعة: (العرَض، الجوهر، تجاهل المطلوب، الأدلة الفاسدة، المصادرة، إيهام العكس، جمع المسائل).
وهكذا يتبين أننا مدينون لأرسطو كلياً بنظرية القياس وجزئياً في باقي نظرياته وخصوصاً الخطابة والجدل والمغالطة التي ازدهرت عند السوفسطائيين، فهو مبدع لأول نظرية في الاستدلالات وأول مؤلف لنسق منطقي. وقيل أنه أبو المنطق بجدارة.
هناك معجبون بأرسطو يؤكدون اكتمال المنطق وولادته على يده بينما هناك آخرون يلومون أرسطو بأنه استخدم نتاج سابقين دون أن يستشهد بهم.
فإذاً لم يكن أرسطو أول ولا آخر المناطقة، ولكن الحق أن مؤسس المنطق كعلم مستقل ينحصر في أرسطو مع اعتماده على منطق أفلاطون وديمقريطس وهو أول من فرّق بين التقابل بالتضاد والتناقض وهو أول من قدّم نظرية لتقسيم الأحكام وفقاً للجهة وقياسها.