د. سحر مصطفى(*)
هي ليلة عيد الفطر. بينما تستكمل العوائل كافّة في بلدة بريتال تحضيراتها لاستقبال العيد، يعلو النحيب في منزل ذوي الشاب يوسف الأسود. يجتمع أهل البلدة ليستوضحوا الخبر. رحل يوسف. رحل الفتى في ريعان الشباب، بعد معاناة دامت شهرين في المستشفى جرّاء إصابته برصاصة طائشة دخلت رأسه واستقرت داخله... اعتصم الأهالي ورفعوا الصوت عالياً، ولكنّ صوتهم كان صرخةً في واد!!
وتتوالى فصول المآسي، فتاة صغيرة وشاب في الـ 35 من العمر (أب لأربعة أطفال)، وسيّدة عجوز، ومئات الضحايا من مختلف الفئات العمريّة ومن كافّة المناطق اللبنانيّة، كلّ ذنبهم أنّهم يعيشون في بلد يحبّ الناس فيه أن يعبّروا عن مشاعرهم بإطلاق النار في الهواء، دون حسيب أو رقيب...
* المشكلة: عشوائيّة التعبير
إنّها مشكلة الرصاص العشوائيّ. مشكلة تفاقمت في لبنان في الآونة الأخيرة. فبعد أن كانت محصورة في مناسبات ومناطق محدّدة ومحدودة، أصبحت وسيلة يعبّر بها الناس عن حُزنهم وفرحهم وغضبهم، سواء في المناسبات العامّة أو الخاصّة... فما هي أسبابها؟ وكيف يمكن معالجة هذه المشكلة والحدّ منها؟
أنْ يعبّر الناس عن مشاعر متناقضة بالوسيلة نفسها، لهو فعلاً أمر يستحقّ التوقّف عنده من منظور علم النفس الاجتماعيّ. هل الغضب الكامن والشعور بالقهر والمظلوميّة، يدفعان الناس إلى أن يُثبتوا لأنفسهم وللآخرين أنّهم قادرون وموجودون من خلال قوّة السلاح؟ هل هو خَلل في طُرق التواصل والتعبير عن المشاعر؟ هل هو ضَعف المحاسبة القانونيّة وقوّة الردع عن ارتكاب هذه الأفعال ما يجرّئ الناس على إطلاق الرصاص بمناسبة وبغير مناسبة؟
* أسباب المشكلة
تختلف أسباب المشكلة وتتشعّب بلحاظ عوامل عدّة، منها: المناسبة التي يجري فيها إطلاق الرصاص، واختلاف المناطق، حيث ترتبط بعض العادات الاجتماعية بإطلاق النار ابتهاجاً باحتفال أو تكريمٍ لميت.
نجد أنّه حتّى لدى الأجهزة العسكريّة، في الكثير من دول العالم، يجري إطلاق عيارات ناريّة عدّة في وداع شهيد من العسكريّين أو استقبال شخصيّة رسميّة، ما يعني أنّ هذه الطريقة معتمَدة للتعبير عن المشاعر المتطرفة، سواء شدّة الفرح الممزوجة بالتكريم، أو شدّة الحزن الممزوجة بالافتخار، كما في حالة وداع الشهيد. وهي ليست بدعة ابتدعها اللبنانيّون. ولكن ما حوّلها إلى مشكلة هو انتشارها بشكل عشوائيّ لا يخضع لأيّ ضابط زمانيّ أو مكانيّ، وممارستها من قبل أيّ فرد دون أيّ تقدير للعواقب... ويمكننا إيجاز أهمّ الأسباب التي تؤدّي إلى انتشار هذه المشكلة وتفاقمها بالآتي:
1- الضغط الذي يعيشه الناس نتيجة الأوضاع المتردّية في لبنان من النواحي كافّة.
2- الخلل في التربية على طريق التواصل السليم والتعبير الصحيح عن المشاعر.
3- الشعور بالتهميش الذي يعيشه الشباب وبعض الفئات الاجتماعيّة.
4- العنف الذي يسود العالم والمنطقة بشكل خاصّ، حيث أصبح الموت رقماً تتداوله وسائل الإعلام بشكل يوميّ.
5- عجز أجهزة الدولة عن نصرة المظلومين وإعطاء الحقوق، ومحاسبة المرتكبين.
6- غياب مفهوم المواطَنة والمصلحة العامة.
* كفى لإطلاق النار بالعمل
الحقيقة، إنّ هذه المشكلة شديدة التعقيد والحساسيّة، ولا يجوز بأيّ حال من الأحوال تبسيطها وحصْر معالجتها في الشقّ الأمنيّ العسكريّ فقط، كما يحلو للبعض تظهير الموضوع على أنّه مشكلة أمنية بحتة، تحلّ بمجرد وضع مطلقي النار في السجن، بل يجب أن ننظر إلى المشكلة بمداها الواسع، وأن تتوزّع معالجتها على محاور عدّة:
الأول: محور وقائيّ:
بحيث يتمّ توعية الأجيال القادمة وتنشئتهم على:
1- مهارات التواصل الصحيح.
2- احترام الآخرين.
3- اعتماد طرق مختلفة للتعبير عن المشاعر، وتزويدهم بمهارات لإدارة انفعالاتهم، وتوعيتهم على احترام القوانين ونبذ المرتكبين للمخالفات القانونية.
الثاني: محور علاجيّ:
تتنوع فيه الإجراءات، ابتداء من التوعية على:
1- الآثار السلبيّة التي يخلّفها إطلاق الرصاص العشوائيّ.
2- معاقبة المرتكبين ونبذهم اجتماعياً.
3- إقامة الورش والتدريب على إدارة الانفعالات، وبناء طرق التواصل السليم، ووضع أساليب للتفريغ النفسيّ.
الثالث: محور البدائل:
الذي نقوم من خلاله بتقديم بدائل للناس للتعبير عن مشاعرهم ومناسباتهم. وهناك العديد من الأفكار في هذا المجال. وقد بدأت بعض الجهات من حركات كشفية وغيرها بالاحتفال بالمناسبات، عن طريق إطلاق البالونات الملوّنة، أو الأضواء أو الشموع أو الألعاب الضوئيّة وغيرها.
* مبادرات لمكافحة إطلاق الرصاص
ومن المهمّ التذكير بأنّ الخطاب الذي سيوجّه في مختلف المحاور يجب أن يراعي خصوصيّات الفئات المختلفة التي يجري التوجّه إليها، سواء من ناحية الفئات العمريّة، أو مستوى التعليم والبيئة الاجتماعيّة المحيطة، فلكلّ فئة أسبابها الخاصّة التي تدفعها إلى إطلاق النار العشوائيّ، والخطاب والأساليب التي يمكن أن تردعها عن هذا الفعل...
والحقيقة، إنّنا تعودنا في هذا البلد على الشكوى المستمرّة من ضعف أو غياب الدولة والأجهزة الرسميّة، ولكننا لم نعتد المبادرة الأهليّة لحلّ المشاكل. لقد دقت ساعة الكفّ عن الشكوى والبدء بالعمل، فقد أبصر "التجمّع الأهليّ لمكافحة إطلاق الرصاص العشوائيّ" النور أخيراً. وهو تجمّع يضم أكثر من 25 جمعيّة وجِهَة أهلية للحدّ من هذه المشكلة، وزّع أنشِطته على محاور عدّة ضمن أجندة سنويّة، تراعي تنوّع البرامج من فنيّة وإعلاميّة وتدريبيّة وتوعويّة، بالإضافة إلى تفعيل دور القوى الأمنيّة، وبمشاركة فاعلة من بعض البلديات...
* مبادرة حكوميّة
أتى القانون الصادر مؤخّراً عن مجلس النواب اللبناني والذي يجرّم إطلاق النار العشوائي، ليشكّل أداة إضافيّة داعمة لأنشطة التجمّع.
إنّ هيئات المجتمع المدني كافّة مدعوّة لمؤازرة عمل هذا التجمّع ورَفده بالإمكانيّات الماديّة والبشريّة، حتّى نصل إلى مجتمع خالٍ من إطلاق النار العشوائيّ...
لا ينقصنا في هذا البلد هلَعٌ وضغوطات يوميّة وأسباب للموت المتنقّل والفجائيّ، فلدينا ما يكفينا من المشاكل ومصادر التهديد، آن الأوان لنقول: كفى لإطلاق الرصاص العشوائيّ...
(*) مسؤولة الدراسات في مركز أمان للإرشاد السلوكي والاجتماعي، أستاذة جامعية.