اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

الحج بيت التوحيد ومستوطن العبوديّة

الشيخ شفيق جرادي

 



إنَّ الحج هو القصد.. وبالتالي فإنَّ الحج إلى بيت الله الحرام، هو قصد العبد بعزم وإرادة وإيمان السّير والتَّوَجُه نحو أرض اختارها المولى سبحانه وتعالى، لتكون محلاًّ لتوطين النَّفس والقلب والرُّوح لِيَختَصِر كل الصِّلة برب العالمين بسكون ويقين واطمئنان..

*نحو خلوص التوحيد
وعليه فإذا ما أراد الإنسان التَّوجه نحو الحج فعليه أن يعلم أنَّه يتّجه نحو خلوص التّوحيد لله سبحانه.. وشرط ذلك وأدبه المعنويّ جملة من الأمور منها:

1- أن يعمل الإنسان بعزم على تجريد قلبه من كل شاغل يشغله عن ذكر الله وتوحيد العبادة له وحده سبحانه.
2- أن يفوِّض أمره إلى ربِّه، ويتوكّل عليه في كل خطوة يخطوها، وفي كل عمل يمارسه..
3- العمل على تبرئة ذمَّته، وذلك بأن يؤدي للناس حقوقهم المتوجِّبة عليه..
4- أن لا يعتمد على ذاته وحوله وقوَّته في تأمين وصوله إلى الحج، بل أن يجعل كل أمره بيد ربّه، وسيّده، ومولاه، ومالك أمره، الذي هو الله سبحانه.. والتالي أن يعتقد أن كل توفيق حصل عليه فإنما هو من نعم الله الذي يوجب عليه شكره، وحمده سبحانه.
5- أن يترك موطنه قاصداً الحج بروحٍ مودعة وكأنها تترك هذه الأرض ولن تعود إليها، وبالتالي فليحسن علاقته بالخلائق وليحسن عشرته مع الذين يسافرون معه. ومن كانت هذه قناعة روحه، فعليه التّوبة عن كل ذنبٍ سلوكيّ، أو أخلاقيّ، أو نفسيّ، وقلبيّ...
6- أن يربط كل فعل من أفعال الحج أو شعيرة من شعائره، بالعلاقة المعنويّة مع الآخرة، ومع ربّه سبحانه متأدّباً بذلك بما ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام في مصباح الشّريعة: "ثمَّ اغتسل بماء التّوبة الخالصة من الذّنوب، والبس كسوة الصِّدق والصَّفاء والخضوع والخشوع، واحرِم عن كلِّ شيء يمنعك عن ذكر الله عزَّ وجل ويحجبك عن طاعته.

ولَبِّ: بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله... وَطُف بقلبك مع الملائكة حول العرش... وَهَروِل هَروَلة فرّاً من هواك... واخرُج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى مِنى... واعترف بالخطأ في عرفات، وجدِّد عهدك عند الله تعالى بوحدانيَّته وتقرَّب إليه واتَّقِهِ بِمُزدَلِفة، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل، واذبَح حنجرة الهوى والطّمَعِ عند الذَّبيحة، وارمِ الشَّهوات عند رميِ الجمرات واحلق العيوب الظَّاهرة والباطنة بحلق شعرك وادخل بأمان الله بدخول الحَرَم وزُر البيت واستلِم الحَجَر رِضىً بِقِسمَتِه وخضوعاً لِعَظَمَتِه، ودَع ما سواه بطواف الوداع، وصفِّ روحك وسِرَّك للقاء الله تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصَّفاء... وكِن ذا مُرُوَّة من الله بفناء أوصافك عند المَروَة، واستقِم على شروطِ حَجِّكَ ووفاء عهدك الذي عاهدتَ ربَّك، وأوجَبتَه له يوم القيامة، واعلم بأنَّ الله لم يفترض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطّاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا... ولا شَرعَ نبيَّه صلىّ الله عليه وآله من خلال المناسك على ترتيب ما شرعه إلا للإستعداد والإشارة إلى الموت، والقبر، والبعث، والقيامة. وفصَّلّ بيان السَّبق من دخول الجنَّة أهلها، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أوَّلها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النُّهى."(1)

*روح التوحيد في المناسك
وهكذا فإن هذه الرِّواية الواردة عن الإمام الصَّادق عليه السَّلام تُعَلِّمنا أنَّ كل فعل ومنسك من مناسك الحجّ، هو آية تشير إلى توثيق الإرتباط بالله سبحانه... بحيث يتحوَّل الإنسان مع هذه المناسك ومعانيها إلى عبدٍ مُهّذَّبٍ بالكمالات الإنسانيّة، بخروجه من دائرة حبِّ الدُّنيا، ومن حبِّ النَّفس، والإرتهان إلى الهوى والشَّهَوات والأنانِيَّة... حتى إذا ما صَفَّى قلبه وكانت توبته توبةً نصوحاً، إندَرَجَ في سِلك السّاَئرين والسَّالكين إلى الله سبحانه، متوَكِّلاً عليه سبحانه مفوِّضاً كل أمره إليه عزَّ وجلّ، معتقداً أنَّ أصل الحياة ودروبها ومآلاتها، إنَّما هي من الله، وفي الله، وإلى الله. إذ هو الأوَّل والآخر، والظَّاهر والباطن، وبه الحَول ومنه القوَّة...  وهذه الممارسة هي التي تُشعِلُ في قلب (الحاج) حقيقة التّوحيد ومعناه... إذ ليس التَّوحيد كما يتصوَّر البعض أفكاراً ومفاهيم وبراهين وغير ذلك مما تنطوي عليه الكُتُب، بل إن التَّوحيد الوارد في الكتب هو عباراتٌ وكلِماتٌ تشير إلى الحقائق... أمَّا الحقيقة فهي حيَّة تنبض في قلب الإنسان وروحه وفي معالم العبادة لله سبحانه وتعالى.. ففي الصَّلاة يكمن التَّوحيد وفي الصَّوم يكون تثبيت التَّوحيد، وفي الحجّ تكون نسبة العبد إلى التَّوحيد الحقيقي... إنَّ ظواهر هذه الأعمال العباديَّة كلَّها تنضح بروح التَّوحيد ومائه الزُّلال الذي يكون به كلُّ شيءٍ حيّ...  أما إذا مارسها الإنسان دون أن يتعمَّقَ في وجدانه وقلبه وعقله فيها، فإنَّها تُعَدُّ مجرَّد إسقاط للتَّكليف ولم تصل إلى مرتبة أن تفيض من معينها الرُّوح والحياة على كلِّ حيٍّ يسعى لإرشاد روحه إلى نعمة الحياة الذي لا موتَ معه، وهي الحياة بِكَنَف رحمة الله سبحانه..

هذا الإحياء لمناسك الحجّ عبر الوعي والتَّأمُّل والتّفكُّر هو القادر على ربط عالم الدُّنيا بالآخرة.. بحيث لا تُنسيه زخارف الحياة الدُّنيا بمشاغلها ومتاعبها، بآثامها وآلامها، بأفراحها وأتراحها، حقيقة الموت والقبر والبعث وحقيقة المصير الأخير للإنسان بالجَنَّة أو بالنَّار... ومن أفق هذا التَّعاطي تتولَّد في ذات الإنسان قدرة جِهاديَّة إستثنائيَّة لبناء صورة الدُّنيا، وصورة علاقة البَشَر بعضهم ببعض، على أساس مثل هذا المضمون العميق للعلاقة بالله... فتتحوَّل العبادة إلى صراط توحيدي وتتحوَّل الآخرة إلى عبادة لله سبحانه، وتتحوَّل الدُّنيا إلى مزرعة للآخرة تنعم بكلِّ امتدادها بنعمة التَّوحيد، وبناء الذات المُوَحِّدة والتَّوحيديَّة...


1- مصباح الشَّريعة؛ الأعلمي؛ ص: 47-50.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع