هناء نور الدين
تحدثنا في المقال السابق عن علاقة وواجبات الأم بأبنائها الذكور والإناث والطرق التي يجب أن تعتمدها من أجل بناء أسرة سليمة... ولكن نظراً للخصوصية التي تتمتع بها الأنثى (البنت) فقد أولاها الإسلام أهمية عظيمة وخصّها بطائفة كبيرة من أحاديثه لاحترامه لها. وهذا النوع من التعامل مشترك بين الأب والأم، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج. وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإنه من فرّح أنثى فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل ، ومن أقرّ بعين ابن فكأنما بكى من خشية الله، ومن بكى من خشية الله أدخله الله جنات النعيم"(1).
وعنه أيضاً صلى الله عليه وآله: "من عال ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، وجبت له الجنة. قيل: يا رسول الله واثنتين؟ قال: وإثنتين. قيل: يا رسول الله وواحدة؟ قال: وواحدة"(2). وعن الصادق عليه السلام: "من عال ابنتين، أو أختين، أو عمتين، أو خالتين، حجبتاه من النار"(3). وعنه أيضاً: "البنات حسنات، والبنون نعمة، والحسنات يثاب عليها، والنعمة يسأل عنها"(4). إذاً، نستنتج من هذه الروايات، وروايات أخرى تأكيد الإسلام على حسن الرعاية والإهتمام الشديد بالبنت في جميع مراحل حياتها... كيف يجب أن تعامل من قبل الوالدين وخصوصاً الأم؟! كيف يجب أن تكون مصانة من قبل أخوتها الذكور ومحاطة بهالة من التقدير والإحترام؟! كيف يجب أن تكون علاقتها بوالديها؟ وما هو الهدف الذي أراده الإسلام من خلال ذلك؟...
* علاقة الأم بابنتها:
لقد هدف الإسلام من خلال تكريمه واحتفائه بالفتاة إلى أن تشعر بالقوة والدعم المعنوي والمادي في مجتمع يحب الذكور... وتعزيزاً لمكانها، ورفعاً من شأنها، ونظراً للدور التربوي الملقى على عاتقها أمر الإسلام بحسن تربيتها، والرأفة بها، وغرس مجموعة من العادات والسلوك والصفات النبيلة عن طريق التربية والتعليم. والأم الصالحة التي تريد أن تكون ابنتها نموذجاً يحتذى به في المجتمع عليها أن تتعهد ابنتها بالرعاية؛ فهذا من أولى واجباتها.
1- أن تربي ابنتها على العفة والطهارة الروحية والقلبية فترغبها بالحجاب، وتحثها عليه، وتشجعها على ارتدائه لأنه يمثل أحد عناصر قوة الشخصية في الفتاة وهو عبادة في حد ذاته.
2- أن تربي ابنتها منذ الصغر على الثقة بالنفس بتقديم حوافز النجاح، وعلى الجرأة والشجاعة في اتخاذ المواقف الصحيحة بأن ترشدها إلى سير السيدات العظيمات في تاريخنا الإسلامي اللواتي سطّرن صفحات مشرقة وكيف أثّرت تربيتهن في أحضان الفضيلة والعفاف لأن يغيرن مسار شعب بأكمله... وأن يتأثر بهنّ الرجال ويتعلموا منهن القيم الإنسانية.
3- تربية الفتاة على سيرة ونهج أهل البيت عليهم السلام وخصوصاً سيرة السيدة الزهراء عليها السلام والسيدة خديجة عليها السلام وزينب عليها السلام بطلة كربلاء... بشرح أدوارهن وتبيان مواقفهن، ليس فقط الدور الجهادي والسياسي وإنما الصفات السلوكية والعبادية والروحية التي جعلت منهن سيدات التاريخ.
4- مراقبة تصرفات وميول ورغبات ابنتها، وتوجيهها التوجيه السليم وإحاطتها بالعناية التامة وإشباعها عاطفياً واحترام رأيها حتى لو كانت على خطأ، لأن هذا يؤثر في طبيعة تصرفاتها خارج المنـزل... فإذا كانت الفتاة تعيش في جو عائلي يسوده الإضطراب والفوضى والعصبية والضغط النفسي والرقابة الشديدة على تصرفاتها وحركاتها، من شأن هذا أن يسبّب لها توتراً نفسياً وفراغاً عاطفياً قد تسدّه في حالات غير مشروعة، وتكون ألعوبة في أيدي الآخرين؛ لذلك على الأم أن تراقب هذه الحالة عند ابنتها وأن تعطيها قدراً كبيراً من وقتها لتتفهم حاجتها وتعرف مزاجها، وماذا تريد.
5- اتباع قاعدة الحوار و النقاش بين الأم وابنتها وعدم فرض الرأي والأوامر بالقول، والحوار مبدأ مهم دعت إليه الرسالات السماوية والأنبياء عليهم السلام في حوارهم مع قومهم... فمن شأن الحوار:
أ- تعزيز العلاقة بين الأم وابنتها
ب- عدم وجود مسافة وحاجز ربما تفرضه السن، والتربية، والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تربت فيها الأم ونشأت عليها...
ج- تتعرف الأم من خلال حوارها مع ابنتها على مشاكل العصر الحديث، حاجات الشباب، متطلبات النشء الجديدة.
وهنا يجب على كل أم واعية أن تواكب حركة التطور السريع الذي يعيشه العالم، سواء على مستوى التكنولوجيا أو الإجتماع أو الإقتصاد أو الثقافة أو غيرها كي تستطيع أن تؤثر في تربيتها... وخصوصاً ما يتعلق بالإعلام و بالوسائل والمحطات الإعلامية التي كثر انتشارها في الآونة الأخيرة، وباتت بؤر فساد وانحلال خلقي واجتماعي وباتت وسيلة تلوث قلب الفتاة وطهارتها بل المجتمع بأكمله... وهنا لزم على الأم أن تشتغل بطريقة أخرى وأن تؤمن البديل الأجمل والأرقى والأنقى الذي يساعد على تطهير الذات وتنمية الجانب الروحي والأخلاقي... بدعوتها وترغيبها للإتصال بالله تعالى عبر برنامج تعده الأم والفتاة يحتوي على مضامين عالية في تربية الذات يتضمن:
أ- أداء العبادات الواجبة بانتظام مع التأكيد على إقامة الصلاة لوقتها.
ب- تلاوة ما تيسّر كل يوم من آيات الله والتدبر في معانيه لما للقرآن من دور عظيم في تهذيب الذات وصياغة شخصية الإنسان.
ج- قراءة بعض الأدعية والمناجاة الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.
د- أداء بعض الممارسات العبادية المندوبة كصلاة الليل... وما تيسر من النوافل.
هـ- تذكّر الآخرة ويوم القيامة ووقوف الناس بين يدي الله تعالى للسؤال والحساب.
ليس فقط النواحي العبادية تربي شخصية الفتاة بل هناك أيضاً الجانب العقائدي الذي يتصل بعقيدتنا بالتوحيد و النبوّة والإمامة والعدل والمعاد وبالأمور التشريعية كافّة التي شرّعها المولى عز وجل، وهي للإنسان عامة والهدف المراد تحقيقه من هذه التربية الدينية يتلخص في بناء شخصية مستقيمة صالحة متوازنة قوية، وهذا المنهج في التربية يشترك فيه جميع أفراد العائلة بما فيها الأب والأم، لأن الإسلام هو تربية يسعى إلى تربية جميع أفراده قبل أن يكون تعليماً.
و- أن تتخذ الأم ابنتها صديقة لها، وخصوصاً في مرحلة عمرية معينة تكون فيها الفتاة قادرة على تفهّم الحياة ومستعدة للنقاش والتفاعل على إثر التربية التي تلقتها. بأن تعلمها وترشدها إلى المسائل الخاصة بالفتاة والمرأة. ففي الشريعة الإسلامية يوجد كمّ هائل من الأحكام المتعلقة بالفتاة والمرأة، هناك أحكام عبادية، أحكام تربوية، أحكام سلوكية، ماذا تعرف بناتنا عن هذه الأحكام؟ إذاً على أي أسس تنطلق العملية التربوية الدينية؟!... على الأم أن تتعهد ابنتها بالرعاية والرقابة بأن تعودها على تحمل المسؤولية من إدارة المنـزل والقيام بواجباتها الأساسية من ترتيب ونظافة وتدبير؛ لأن هذا العمل يعبّر عن شخصيتها وسلوكها وهويتها... مع عدم الإسراف في غنجها ودلالها وكثرة المدح والثناء عليها، لأن بذلك ينتج شخصية غير متوازنة لا مسؤولة وغير مبالية. وكثير من الأمهات ربما يقعن في هذا الخطأ.
* لنا في شخصية الزهراء عليها السلام الأسوة والقدوة:
نحن لنا في حياة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام النموذج الأكمل في تربيتها لإبنيها الحسن والحسين عليه السلام وفي تربية الحوراء زينب عليها السلام. هذه التربية النموذجية القرآنية التي صنعت منها بطلة كربلاء. وتروي لنا كتب السيرة عن حوار جرى بين علي عليه السلام و ابنته السيدة زينب عليها السلام في مسائل تتعلق بتفسير القرآن وبعض الأحكام وكانت عليها السلام تناقش والدها في مسائل عميقة وتطرح عليه أسئلة فلسفية فدهش الإمام عليه السلام من ثقافتها وغزارة علمها وشدة بيانها، وعندما نبأها بأمور ستجري عليها في مستقبل حياتها قالت: "أعلم ذلك أمي أخبرتني وهيأتني لغدي" وهنا نستنتج أن الزهراء عليها السلام كانت تتقن وبمهارة طريقة الحوار بين الأم وابنتها على أسس منطقية، تربوية، فكرية، علمية، وهي أول من أوضحت لنا هذا الأسلوب في عملية التربية والتعليم... وهذا النهج في التربية وإقامة علاقة ودّ ومحبّة تجهله الكثيرات من نسائنا المتعلمات المثقفات اليوم، لأن اللجوء إلى استعمال القسوة والعقاب القاسي والنقد السلبي المستمر من شأنه أن يؤدي إلى خلق شخصية ضعيفة غير قادرة على المواجهة، تتأثر بتيارات الفساد المنحلّة وهذا ما يخالف نهجنا الإسلامي الأصيل ووظيفة الأم الأساسية في الحياة... وأخيراً، حبذا لنساء اليوم وأمهات هذا العصر أن يلتزمن الحياء والعفة والسلوك الحسن وعدم التبرج -تبرج الجاهلية الأولى، وأن يُشِعْن في أجواء الأسرة الطمأنينة والهدوء والأمن والمحبّة، كي يتسنى لهن تعليم بناتهنّ بالأسوة والقدوة الحسنة.
1- دخيل (علي محمد علي)؛ ثواب الأعمال وعقابها؛ ص: 432.
2- ن؛ م؛ ص: 467.
3- ن؛ م.
4- ن؛ م.