الشيخ مهدي أبو زيد
بالموت تبدأ مراسم الانتقال إلى مرحلة جديدة، ولكنّها بشكلٍ فرديّ هذه المرّة، وهو ما ذكره الإمام زين العابدين عليه السلام: "ارحم.. عند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي.. وجد عليّ منقولاً قد نزلت بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي..."(1). فعند القبر تنتهي جملة من العلاقات وتتوطّد علاقات أخرى؛ فإذا أحسن الإنسان استغلال الإمكانات في دار الدنيا، نجا في الآخرة. والبرزخ إحدى مراحل الآخرة، قال فيه الإمام الصادق عليه السلام: "... أتخوّف عليكم في البرزخ. قلت: وما البرزخ؟ قال: القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة"(2). فمن هم الناجون في البرزخ؟ وكيف؟
•محلّ النتائج التكوينيّة
البرزخ محلّ النتائج التكوينيّة وتجسّم لحقيقة العمل، بالتالي، لا شفاعة فيه. وقد أشارت الآيات الشريفة إلى ذلك في أكثر من مورد: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ (النساء: 10)؛ وفيها إشارة إلى الصورة البرزخيّة لأكل مال اليتيم من غير حقّ، وأنّ واقعها البرزخيّ أكلٌ للنار، ولها عقوبة حقيقيّة في الآخرة: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ والأمثلة القرآنيّة متعدّدة عن ذلك.
ويواجه الإنسان في أولى مراحل القبر وعالم البرزخ عقبات ومحطّات، سنحاول الإشارة إليها، وذكر الأعمال المنجية منها:
أوّلاً: للنجاة حين المساءلة:
وهي أوّل الاستحقاقات في القبر، وورد لها في المدرسة النبويّة علاجات عدّة تخفّف من هَولها، منها ما يمكن فعله حال الحياة:
1- المواظبة على دعاء العديلة: "... إنّي قد أودعتك يقيني هذا وثبات ديني، وأنت خير مستودع، وقد أمرتنا بحفظ الودائع، فردّه عليّ وقت حضور موتي..."(3)، فتدفع عنه سوء المنقلب وفساد العقيدة.
2- أذكار: ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمات من قالها عشراً وقاه الله من شرّ الموت، وضغطة القبر: "أعددت لكلّ هولٍ لا إله إلّا الله، ولكلّ همٍّ وغمٍّ ما شاء الله..."(4). ولا بدّ من التأكيد أنّ ما ورد من الأذكار وقراءة القرآن، مؤثّرٌ في الحياة الدنيويّة للشخص من ثبات العقيدة وأداء الواجبات وترك المحرّمات، وإيقاظٍ للفطرة الهامدة، وقيادة إلى الرشاد والطاعة.
3- التلقين: روي عن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "ما على أحدكم إذا دفن ميّته وسوّى عليه وانصرف عن قبره أن يتخلّف -يبقى ولا يذهب مع الراجعين- عند قبره، ثمَّ يقول: يا فلان ابن فلان، أنت على العهد الذي عهدناك به من شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ عليّاً أمير المؤمنين، وفلان، وفلان حتّى يأتي على آخرهم؟ فإنّه إذا فعل ذلك قال أحد الملكين لصاحبه: قد كفينا الوصول إليه ومسألتنا إيّاه، فإنّه قد لقّن، فينصرفان عنه ولا يدخلان إليه..."(5).
فإن كان من أهل الصلاح والإيمان، وترسّخت العبادة في وجدانه وحقيقته، فإنّه سيتلقّف ما يتمّ تلقينه به بسرعة؛ لأنّها معارف ألفها، واعتقد بها، وسار عليها، فيندفع عنه بذلك هول السؤال، أمّا إذا كان لها منكراً وعنها معرضاً في دار الدنيا، فإنّه سيتلجلج عنها، وبالتالي، يعرّض نفسه للوقوع في الأهوال.
4- طاعة الله في الحياة: من اللحظات الأولى لنزول القبر، تتبيّن حال الإنسان وما قدّمه لحياته، فإمّا هي أولى لحظات السعادة والسرور وتوالي البشارات، وإمّا هي أوّل مسلسل الأهوال، والتي يُعّد الموت أيسرها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "شرّ الناس من قامت القيامة وهو حيّ، وإذا مات ثمّ قامت القيامة، فهو خير الناس..."؛ ويقصد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك الإنسانَ المتنبّه اليقظ الذي عاين الآخرة من خلال سلوكه وعمله.
5- العقيدة والولاية الكاملة: يروى عن الحسن بن عليّ الوشّاء (وكان من الواقفة ثمّ عاد) قال: دعاني سيّدي الرضا عليه السلام بمرو، فقال: "يا حسن، مات عليّ بن أبي حمزة البطائنيّ في هذا اليوم، وأُدخل في قبره الساعة، ودخلا [دخل] عليه ملكا القبر فسألاه من ربّك؟ فقال: الله، ثمّ قالا: مَن نبيّك؟ فقال: محمّد، فقالا: من وليّك؟ فقال: عليّ بن أبي طالب، قالا: ثمّ،... قال: موسى بن جعفر، وقالا: ثمّ مَن؟ فلجلج، فزجراه وقالا: ثمّ مَن؟ فسكت، فقالا: أفموسى بن جعفر أمرك بهذا؟ ثمّ ضرباه بمقمعة من نار، فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة"(6).
ونفهم من هذه الرواية أنّ الأسئلة الأوّليّة التي يُسأل عنها الإنسان هي المعتقد بالدرجة الأولى، وخاصّةً الولاية الكاملة، ثمّ فروع الدين من العبادات، فإن أجاب وإلّا بدأت رحلة الأهوال، وتمثّل للإنسان عاقبة أمره.
ثانياً: ضغطة القبر وعذابه:
أشارت الروايات إلى أنّ ضمّة القبر تطال غالب الناس، وقلّ من ينجو منها. عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ".. إنّه ليس من مؤمن إلّا وله ضمّة"(7)؛ لأنّها نتيجة ما يرتكب في دار الدنيا وغالباً تكون للتكفير عنه:
1- سوء خُلق الرجل مع أهله: عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال: نعوذ بالله منها، ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر!... إلى أن قال: وإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في جنازة سعد وقد شيّعه سبعون ألف ملك، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه إلى السماء ثمّ قال: مثل سعد يُضمّ، قال: قلت: جعلت فداك، إنّا نحدّث أنّه كان يستخفّ بالبول (بتطهير البول)، فقال: معاذ الله، إنّما كان من زعارة(8) في خلقه على أهله، قال: فقالت أمّ سعد: هنيئاً لك يا سعد، قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أمّ سعد لا تحتّمي على الله"(9).
2- تضييع النعم: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم"(10). وفوات الفرص من أقسى الأمور على الملتفت؛ لأنّ الاحتفاظ بها واستغلالها يدفعان نحو المزيد من الكمالات، وحيث إنّه لم يلتفت إليها، يرى حسرة ذلك في قبره.
3- الاستخفاف بالطهارة، والعبادات، وعدم إعانة المحتاج: عن الإمام الصادق عليه السلام: "أقعد رجل من الأخيار في قبره، فقيل له: إنّا جالدوك مائة جلدة من عذاب الله (...) قال: فبمَ تجلدونيها؟ قالوا: نجلدك لأنّك صلّيتَ يوماً بغير وضوء، ومررتَ على ضعيف فلم تنصره، قال: فجلدوه جلدة من عذاب الله عزّ وجلّ فامتلأ قبره ناراً..."(11).
4- أعمال مختلفة: النميمة، وترك الزوج مقاربة زوجته: فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "عذابُ القبرِ يكون من النميمة والبَوْل وعَزَبِ الرجل عن أهله"(12).
•الأعمال التي تحضر عند الميّت في قبره
ثمّة بعض الأعمال التي تحضر عند الميّت في قبره فتأخذ بيده وتسرّه، وهي مجموعة من أمّهات الأعمال الصالحة، وقد ورد عن أحدهما عليه السلام -الباقر أو الصادق عليهما السلام- قال: "إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة [ستّ] صور، فيهنّ صورة هي أحسنهنّ وجهاً، وأبهاهنّ هيئة، وأطيبهنّ ريحاً، وأنظفهنّ صورة، (...) فتقف صورة عن يمينه، وأخرى عن يساره، وأخرى بين يديه، وأخرى خلفه، وأخرى عند رجليه، وتقف التي هي أحسنهنّ فوق رأسه، فإن أتى عن يمينه، منعته التي عن يمينه، ثمّ كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الستّ (..) فتقول أحسنهنّ صورة: من أنتم، جزاكم الله عنّي خيراً؟ فتقول التي عن يمين العبد: أنا الصلاة، وتقول التي عن يساره: أنا الزكاة، وتقول التي بين يديه: أنا الصيام، وتقول التي خلفه: أنا الحجّ والعمرة، وتقول التي عند رجليه: أنا برّ مَن وصلت من إخوانك، ثمّ يقلن: من أنتِ؟ فأنت أحسننا وجهاً، وأطيبنا ريحاً، وأبهانا هيئة، فتقول: أنا الولاية لآل محمّد (صلوات الله عليه وعليهم)"(13).
•المنجيات
من الأمور التي تنجي الإنسان من عذاب القبر:
1- تلاوة القرآن الكريم وخاصّةً بعض السور:
أ- عن الإمام الباقر عليه السلام: "سورة الملك هي المانعة تمنع من عذاب القبر.. ومن قرأها إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير.. من قبَل لسانه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد يقرأ بي في كلّ يوم وليلة سورة الملك"(14).
ب- عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأ ألهكم التكاثر عند النوم وقي من فتنة القبر"(15).
ج- وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: "من قرأ سورة النساء في كلّ جمعة أمن من ضغطة القبر"(16).
د- وعن الإمام الباقر عليه السلام: "من أدمن قراءة حم الزخرف آمنه الله في قبره من هوام الأرض ومن ضمّة القبر"(17).
2- الموت بين الزوالين:
عن الإمام الصادق عليه السلام: "من مات ما بين زوال الشمس من يوم الخميس إلى زوال الشمس من يوم الجمعة، أعاذه الله من ضغطة القبر"(18).
3- صلاة الليل:
عن الإمام الرضا عليه السلام: "عليكم بصلاة الليل، فما من عبد يقوم آخر الليل.. إلّا أجير من عذاب القبر ومن عذاب النار، ومدّ له في عمره، ووسّع عليه في معيشته"(19).
4- أعمال أخرى:
كالدفن في تربة النجف الأشرف، وقراءة بعض الأدعية كما في أوّل رجب، وأعمال أمّ داود..، وبقاء القبر رطباً، وأن يُدفن مع الميّت جريد النخل(20).
•الدرع الحصينة
وبشكلٍ عام، فإنّ العقيدة الحقّة، والطاعة لصاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، والصبر على مكاره الدهر وعن المعصية وعلى الطاعة، تشكّل الدرع الحصينة التي من احتمى بها كان آمناً، وتُشكّل راحة ما بعد الموت من الدنيا ومنغصاتها، والتحاقاً بركب الصالحين من محمّد وآله الطاهرين عليهم السلام، والأنبياء، والأولياء، والشهداء، والصدّيقين.
إنّ الأذكار وقراءة القرآن، تؤثّر في الحيــاة الدنيـــويّة للشخص من ثبات العقيدة وأداء الواجبات وترك المحــرّمات، وتوقظ الفطرة الهامدة وتقود إلى الرشاد والطاعة.
1.مصباح المتهجّد، الطوسيّ، ص593.
2.الكافي، الكلينيّ، ج3، ص242.
3.منازل الآخرة، القمّيّ، ص115.
4.(م.ن)، ص114.
5.روضة المتّقين، المجلسيّ الأوّل، ج1، ص485.
6.مسند الإمام الرضا عليه السلام، العطارديّ، ج2، ص442.
7.بحار الأنوار، المجلسيّ، ج6، ص221.
8.زعارة: شراسة الخلق.
9.الكافي، (م.ن)، ج3، ص236، ح6.
10.ثواب الأعمال، الصدوق، ص197.
11.بحار الأنوار، (م.س)، ج6، ص221.
12.وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج1، ص340، ح894.
13.المحاسن، البرقي، ج1، ص288، ح432.
14.روضة المتقين، (م.س)، ج13، ص142.
15.منازل الآخرة، (م.س)، ص142.
16.البرهان في تفسير القرآن، هاشم البحرانيّ، ج2، ص9.
17.وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج6، ص9.
18.منازل الآخرة، (م.س)، ص140.
19.(م.ن)، ص142.
20.راجع: (م.ن)، ص143؛ جريد النخل: قضبان النخل المجرّدة من ورقها.