مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

عقيدة: ظاهرة الموت‏

عن كتاب العدل الإلهي للشهيد مطهري (بتصرف)

من الأفكار التي عذبت الإنسانية باستمرار فكرة الموت وانتهاء الحياة، فكل إنسان يسأل نفسه: لماذا جئت إلى الدنيا؟ ولماذا منها أذهب؟
ما هو الهدف من هذا البناء وهذا الهدم؟
أليس هذا العمل لغواً لا فائدة منه؟


فالخوف من الموت والنفور منه كان إحدى العلل الدافعة نحو تكوين الفلسفة المتشائمة. والفلاسفة المتشائمون يتصورون الحياة والوجود بلا هدف وخالية من الفائدة وعارية عن الحكمة وقد أوقعهم هذا التصور في لجج الحيرة والاضطراب وأحياناً ألقى في أعماقهم فكرة الانتحار.
وهؤلاء يفكرون بأنه إذا كان لا بد من مفارقة الحياة فلماذا جئنا إليها؟

* النفور من الموت
قبل أن نتناول مسألة الموت والإشكال الموجّه بسببها إلى نظام الكون يحسن بنا أن نتذكر ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي كون الخوف والنفور من الموت من مختصات الإنسان. فالحيوانات لا تفكر في الموت. وما يوجد في الحيوان إنما هو فقط غريزة الفرار من الخطر والرغبة في حفظ الحياة الحاضرة. ومن الواضح أن الرغبة في البقاء بمعنى حفظ الحياة الحاضرة لازمها مطلق الحياة، ولكن الإنسان بالإضافة إلى هذا فهو يطمح إلى المستقبل وإلى البقاء فيه.
وبعبارة أخرى فإن الإنسان له الأمل في الخلود وهذا مختصاته والأمل فرع لتصور المستقبل، والأمل في الخلود فرع لفكرة الأبدية وهذا التفكير والتصور من مختصات الإنسان.

فعلى هذا يكون خوف الإنسان من الموت والذي يجعل فكره مشغولاً لا بد أن يكون شيئاً متميزاً عن غريزة الفرار من الخطر التي ليست شيئاً سوى رد فعل آني ومبهم يقابل فيه كل حيوان الخطر الذي يواجهه.
والطفل الإنساني أيضاً وقبل أن ينبعث في نفسه "أمل البقاء" بصورة فكرة ناضجة فهو، بحكم غريزة الفرار من الخطر، يمتنع عن الاقدام على الأشياء التي تتسم بالخطر.
فالنفور من الموت إذن وليد الرغبة في الخلود، وبما أنه لا يوجد في الطبيعة رغبة لا هدف منها، فنستطيع حينئذ أخذ هذه الرغبة دليلاً على بقاء الإنسان بعد الموت.
وبما أننا نتعذب من فكرة العدم فهذا بنفسه دليل على أننا سوف لن ننعدم.
فلو كنا مثل الأزهار والنباتات نعيش حياة مؤقتة ومحدودة لم تكن لتوجد في أعماقنا الرغبة في الخلود بصورة رغبة أصيلة.

إن وجود العطش دليل على وجود الماء بل إن وجود كل رغبة واستعداد أصيل هو دليل على وجود الكمال الذي تتجه إليه تلك الرغبة وذلك الاستعداد. ويشكل كل استعداد سابقة ذهنية للكمال الذي يجب الإسراع إليه.
فالألم والأمل اللذان يشعر بهما الإنسان تجاه الخلود واللذان يجعلانه مشغولاً بنفسه، إنما هما تجليان لحقيقة رفض الإنسان للعدم. وهذه الآلام والآمال دالة دلالة الرؤى في النوم على ما يشهده الإنسان في اليقظة. فما يظهر في عالم الرؤية أثناء النوم إنما هو تجل لحالات عالم اليقظة التي انسلت إلى أرواحنا ورسخت فيها. فكذلك ما يظهر في عالم اليقظة من أمل في الخلود مما لا يتجانس مع حياتنا المحدودة إنما هو تجلّ لواقعنا الخالد الذي - شئنا أم أبينا - سوف يتحرر من "وحشة سجن الاسكندر" و"يحزم أمتعته ثم ينتقل إلى ملك سليمان".

* الموت نسبي
لقد ظهر إشكال الموت من تصور كونه عدماً والحال أنه ليس عدماً وإنما هو تطور وتحول، غروب عن نشأة ما وبدء نشأة أخرى. وبتعبير آخر فإن الموت عدم ولكنه ليس عدماً مطلقاً بل عدم نسبي، أي عدم تجاه نشأة معينة ووجود في نشأة أخرى.
ومثل الدنيا بالنسبة إلى الآخرة مثل رحم يتمّ فيه صنع وإعداد الأجهزة الروحية للإنسان وذلك لاعدادها للحياة الأخرى.
فالاستعدادات الروحية للإنسان، من بساطة وتجرد، ورفض التجزئة والثبات النسبي "للأنا" الإنسانية، والآمال العريضة التي لا تقبل النهاية، والأفكار الممتدة اللامتناهية، كل هذه قد خلقت متناسبة مع حياة أوسع وأطول وأعرض ولعلّها خالدة وأبدية فالذي يجعل الإنسان "غريباً" و "غير متجانس" مع هذا العالم الفاني هو هذه الأشياء.

ويقول الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ.
أي هل تتصورون أنكم بكل هذه الأجهزة التي زُوِّدتم بها قد خلقتم عبثاً وأن هذه الأجهزة لا هدف لها ولا غاية منها ولو كانت غايتها بعد رجوعكم إلينا.
فلو كان الإنسان بكل هذه التجهيزات لا عودة له نحو الله ونحو الميدان الوسيع والمناسب لهذا الموجود المجهّز لأصبح مثلما لو كان عالم الرحم لا يتبعه عالم الدنيا بل تموت الأجنّة جميعاً بمجرد إنتهاء دورة الرحم كل هذه الأجهزة من سمع وبصر وشم وأعصاب وعقل ومعدة مما لا يصلح لدورة الرحم قد خُلقت عبثاً ثم سُلِّمت إلى العدم دون الاستفادة منها.
أجل الموت نهاية لفصل من حياة الإنسان وبداية لمرحلة جديدة منها.

الموت بالنسبة إلى الدنيا موت ولكنه بالنسبة إلى العالم الآخر ولادة كما تكون ولادة الطفل بالنسبة إلى الدنيا ولادة وبالنسبة إلى دورة الرحم موتاً.

* الدنيا مدرسة الإنسان
تعتبر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة مرحلة تهيؤ وتكميل وإعداد للإنسان، وهي مثل مرحلة الإعداد في المدرسة والجامعة للشباب، فالدنيا في الحقيقة مدرسة ودار للتربية.
وقد ورد في فصل الكلمات القصار لنهج البلاغة أن رجلاً جاء الإمام علياً عليه السلام وبدأ بذم الدنيا على أنها تخدع الإنسان وتفسده وأنها مكّارة وجانية... إلخ وكان هذا الرجل قد سمع أن العظماء يذمون الدنيا فتخيل أن ذلك يعني ذم واقع هذا الكون، وأنه بذاته شر، ولم يعلم هذا الغافل أن الذم ينصرف إلى عبادة الدنيا والنظرة القصيرة والرغبات الهابطة التي لا تنسجم مع الإنسان وسعادته... فأجابه الإمام علي عليه السلام: إنما أنت الذي تنخدع بالدنيا والدنيا لا تخدعك وأنت تجني على الدنيا وهي لا تجني عليك.. حتى قال: الدنيا صديقة لمن يسير معها بأسلوب الصداقة، ومنبع للعافية لمن يدرك حقيقتها، الدنيا معبد أحباء الله مصلَّى ملائكة الله، ومحط وحي الله ومتجر أولياء الله..

* جذور الاعتراض

بهذا التفسير الذي قدمناه لماهية الموت تصبح تلك الاعتراضات خاوية لا أساس لها، وفي الحقيقة فإنها ناشئة من عدم معرفة الإنسان والكون، وبعبارة أخرى فهي مبنية على نظرة كونية ناقصة وبتراء.
والحق لو كان الموت نهاية حقيقية للحياة لأصبحت الرغبة في الخلود والآمال المعلّقة عليها عذاباً أليماً للإنسان، ولأصبحت صورة الموت في مرآة الفكر المستنير والنظرة البعيدة للإنسان مولّدة لنبع من الوحشة لا نهاية لها.
ووجود أفراد من الناس يعتبرون الحياة لغواً وعبثاً ناتج من كونهم يأملون في الخلود ولكنهم يرونه غير قابل للتحقيق فلو لم تكن لهم الرغبة في الخلود لما اعتبروا الحياة لغواً لا فائدة وراءها مهما انتهى بها الأمر ولو إلى العدم المطلق، والحد الأعلى حينئذ اعتبارها سعادة مؤقتة ودولة مستعجلة، ولا يؤدي ذلك بأية حال إلى تفضيل العدم على هذا الوجود، لأن الفرض أن عيب هذا الوجود هو القصر، عيبه أن يعقبه العدم، إذن كل العيوب آتية من جهة القصر والعدم فكيف يمكن القول بأنه لو كان مكان هذا الوجود المحدود أيضاً عدم لأصبح أفضل؟!!

وهنا لا بد أن ندقق في نفس أمل الخلود. فهذا الأمل فرع لتصور الخلود أي تصور البقاء الدائم وجماله وجاذبيته، وهذه الجاذبية تخلق في أنفسنا أملاً كبيراً في أن نبقى دائماً وأن نستفيد من مواهب الحياة باستمرار.
أجل... إنّ الإنسان الذي يعتبر الدنيا "مدرسة" و"داراً للتكميل" وهو مؤمن بالنشأة الأخرى لا يمكن أن يعترض ويقول: إما أن لا يؤتى بنا إلى الدنيا وإما أن نأتيها وحينئذ لا بد أن لا نموت. فليس هناك عاقل يقول: إما أن لا نرسل الطفل إلى المدرسة إطلاقاً وإما أن نرسله إليها بشرط أن نبقيه فيها!

وفلسفة موت الإنسان أيضاً هي تحريره من سجن الكون الطبيعي لينتقل إلى سعة الجنة التي وسعت السماوات والأرض وليصطفي له مقاماً في جوار مَليك مقتدر ورب عظيم ولينال كل كمال بالتقرب منه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع