أميرة برغل
* الأهداف أولاً
تعتبر الأسرة المؤسسة النواتية الأولى في المجتمع، ويعتقد القسم الأكبر من علماء الاجتماع بأن تماسك المجتمع يتوقف، إلى حدٍ بعيد، على تماسك هذه المؤسسة الصغيرة ونجاحها. من جهة أخرى يؤمن جميع التربويين بأن القسم الأكبر والأهم من شخصية الأفراد يتشكل في سنيّ حياتهم الأولى، وأن التدخل التربوي الأساسي الذي يشكل شخصية الأولاد في هذه المرحلة يتم عبر الوالدين وداخل إطار الأسرة.
وبما أن غاية مراد كل إنسان واعٍ، مؤمن باللَّه، وموقن بالمعاد؛ هو إحراز السلوك الذي يضمن له سعادة الدارين معاً. وبما أن إقامة هكذا مجتمع متوقف على تأسيس أسر متماسكة متحابة يتعاون أفرادها على تحمل مسؤولياتهم تجاه أنفسهم وتجاه مجتمعهم ويكونون في أسرهم مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21)، يتحتم علينا استكشاف قواعد بناء أسرة سعيدة ومجاهدة(1): سعيدة؛ لأن لا سكن داخل الأسرة من دون إحساس كل فرد فيها بالاستقرار والسعادة. ومجاهدة؛ لأن استقرار المجتمع ورخاءه يتوقفان على قدرة أبنائه على الجهاد بكل أشكاله: جهاد النفس والعلم والعمل والتطوير والدفاع ودرء أخطار الأعداء... وسوف نسعى لتسليط الضوء على هذه القواعد من خلال الحديث عن قواعد بناء أسرة سعيدة ومجاهدة على صعيد الأهداف والاختيار والتعامل وتربية الأولاد. ولنبدأ، في هذه المقالة، بتبيان هذه القواعد على صعيد الأهداف: فماذا نعني بالأهداف؟ وما هي هذه القواعد؟ تتشكل الأسرة عندما يقرر زوجان، ذكر وأنثى، أن يرتبطا بعقد يلزمهما بالتزاوج والعيش المشترك تحت سقف بيت واحد. ولا يمكن لأحد أن يتخذ قراراً باتجاه بناء صرحٍ ليس له هدف منه. فما هو الهدف الذي يدفع اثنين للتزاوج؟؟ يمكننا على صعيد الأهداف، التي تدفع شاباً وفتاة للارتباط فيما بينهما برباط الزواج، أن نميز بين مستويين من الأهداف.
1- أهداف فطرية متعلقة بحاجات غرائزية أولية؛ كالغريزة الجنسية وغريزة حب البقاء أو الامتداد التي تعتبر أصل الرغبة في الأبوة والأمومة.
2- أهداف متعلقة بغايات فطرية أسمى؛ أهداف تتعلق بالحاجة للتكامل والعطاء وإقامة حكومة العدل الإلهية على وجه الأرض.
وقد وردت في الآيات والأحاديث إشارات لكلا المستويين من الأهداف. فعلى صعيد المستوى الأول، وردت جملة أحاديث تدعو المؤمنين لتحصين أنفسهم بالزواج وترغبهم في الإنجاب. كقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه (أو الباءة) فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج". أو قوله صلى الله عليه وآله: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلاَّ تفعلوا تكن في الأرض فتنة وفسادٌ كبير". وقوله صلى الله عليه وآله: "أطلبوا الولد والتمسوه فإنه قرة العين وريحانة القلب". أو قوله صلى الله عليه وآله: "إن لكل شجرة ثمرة وثمرة القلب الولد". وعلى المستوى الثاني، وردت إشارات كثيرة، أيضاً، تلفت نظر الناس إلى وجود أهداف عليا من الزواج، على الصعيد الفردي والاجتماعي؛ نذكر منها:
قوله تعالى، في سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13). وما ورد على لسان الإمام الرضا عليه السلام: "لو لم تكن في المناكحة آية منزلة ولا سنّة متبعة، لكان ما جعل اللَّه فيه من بر القريب وتأليف البعيد، ما رغب فيه العاقل اللبيب وسارع إليه الموفق المصيب" (ميزان الحكمة/ج4/باب الزواج 1631). وما يُفهم من دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أثناء إقامة القواعد لبيت اللَّه العتيق: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 128). وما ورد على لسان الباري عزَّ وجلَّ من وصف لعباد الرحمن على هذا الصعيد ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ (الفرقان: 74).
وما ذكر عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: "ما سألت ربي أولاداً نضر الوجه، ولا سألته ولداً حسن القامة، ولكن سألت ربي أولاداً مطيعين للَّه وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع للَّه قرَّت عيني" (ميزان الحكمة، ج10، باب الولد الصالح 4198). وهكذا يتضح لنا أن الأنبياء عليهم السلام وأئمة الحق والصالحين بالرغم من إقرارهم بمشروعية الحاجات الغرائزية للزواج إلاّ أنهم يتطلعون من خلال تشييدهم لصرح الأسرة إلى أهداف أعلى. وذلك لأن الأسرة التي تتكون بدافع الحاجات الفطرية الغرائزية الأولية، فحسب، أسرة يمكنها أن تكون مستقرة وقد تكون سعيدة، ولكنها لن تكون أسرة مجاهدة تسهم في بناء مجتمع إلهي، إلاّ إذا تطورت أهداف مؤسِسَيْها معاً، بعد الزواج، لتشمل أهدافاً جديدة متعلقة بالمشروع الإلهي. وقلما يحدث ذلك لدى الطرفين معاً وفي الفترة الزمنية ذاتها.
أما الأسرة التي تتكون بدافع غايات فطرية أسمى أي لا تكتفي بالدوافع الفطرية الأولية فحسب، بل تضم إليها غايات أسمى فتتميز عن سابقتها بكونها قادرة في حال تضاربت الحاجات الأولية مع الحاجات الأسمى على التضحية بالأولى لحساب الثانية. لذا فهي أسرة سعيدة، لأنها في كلتا الحالتين منسجمة مع أهدافها. وهي أسرة مجاهدة، لأنها عازمة منذ البدء على التضحية بالمكتسبات المادية الشخصية المحدودة لصالح المكتسبات الاجتماعية الإنسانية العليا. وشاهدنا في ذلك ما يمكن تلمسه، من خلال المقارنة بين الأسر التي استطاعت أن تُسهم في تشييد صرح الإسلام، قديماً وحديثاً، وبين غيرها من الأسر التي عاصرتها.
ولنذكر أمثلة من حقبة صدر الإسلام:
فبيت علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام لم يتأسس لتلبية حاجات غرائزية فحسب، بل أسس ليكون وعاءاً تنبت فيه البراعم التي ستحمل الرسالة وتحميها على امتداد الزمن. وزواج زينب ابنة علي عليه السلام من ابن عمها عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لم ينعقد بهدف تلبية حاجات التزاوج والتناسل فحسب؛ وإلاّ لما كان خروج زينب مع أخيها الحسين عليه السلام شرطاً مسبقاً في عقد الزواج، وافق عليه الزوج بكل محبة ورضى. وكذلك، على ما يبدو، كان زواج حبيب بن مظاهر من زوجته رضوان اللَّه عليهما. فلقد كان كلاهما يحمل هدفاً أعلى من مجرد الاقتران لتلبية الحاجات الجنسية والتناسلية؛ وإلاّ فكيف نفسر ما ترويه لنا السيرة من استنكار زوجة حبيب عليه تلكؤه في الخروج لنصرة الحسين عليه السلام وإعلانها استعدادها لأكل التراب والحصى مع أولادها في مقابل ذهابه لنصرة الحسين عليه السلام. وهذه أم عمر بن جنادة الخزرجي؛ لم تتماسك فقط أمام شهادة زوجها؛ بل ذهبت أبعد من ذلك، مضحية بغريزة الأمومة وحب البقاء، عندما طلبت من ابنها، الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، التقدم بطلب الإذن للبراز دون الحسين عليه السلام. في المقابل، تخلت الكثير من الأسر الكوفية، عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام، بسبب عدم استعداد مؤسسيها لاستحضار أهداف أعلى من الأهداف الغرائزية المحدودة، فكانت كل زوجة تتعلق برداء زوجها راجية منه ألاَّ يثكلها بنفسه. ولا يتصورَنّ أحد أن التضحية بالحاجات الغرائزية الأولية يعني استهتار أصحاب الأهداف العالية بالمشاعر والعواطف الإنسانية أو قساوة قلوبهم؛ بل على العكس من ذلك تماماً، فإنهم إنما يضحون بهذه الحاجات من أجل حاجات أكثر إنسانية، حاجات تتعلق بسعادة كل البشر وليس سعادتهم وحدهم. انطلاقاً مما تقدم، نستطيع أن نخلص إلى أن بناء أسرة سعيدة ومجاهدة يتطلب من مؤسسيها، على صعيد الأهداف، الالتفات إلى القاعدتين التاليتين:
1- انطلاق كلا الشريكين في رغبته بالزواج من الطرف الآخر من أهداف سامية، تتعلق بالمشروع الإلهي في الأرض واستمرار الحياة الإنسانية في صورتها الفضلى.
2- توافق الشريكين مع بعضهما البعض، على هذه الأهداف منذ بداية تأسيس الأسرة.
استناداً لهاتين القاعدتين سيترتب على الشريكين مراعاة قواعد أخرى على صعيد الاختيار، بخصوص مفردات كثيرة متعلقة بكيفية بناء هذه الأسرة؛ نتطرق إليها، بعونه تعالى، في المقالة التالية.
(1) أو كما أسماها أحد العلماء الأفاضل: سعيدة في الدنيا وفي الآخرة أسعد.
(_) باحثة في مجال التربية الإسلامية.