حسن زعرور
شهادة حق للشعب الفلسطيني، في كفاحه المستمر منذ مئة وخمسة وعشرين عاماً، كفاح لم يحظ إلا بالقليل من الاهتمام والمعرفة، خصوصاً بين أجيالنا الشابة، التي عصف بها الإعلام الغربي. المروِّج للأكاذيب الصهيونية حول ما جرى، ووسام فخرٍ لأمة قدمت الكثير ولم تزل، رغم تعرضها لما لم تتعرض له أمة أخرى. من ذاكرة فلسطين... إليكم الحقيقة.
* مرآة الضمير
بهدف الترويج للمشروع الصهيوني في فلسطين، ادعى هرتزل أنها "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، يومها لم يكن الإعلام والمعرفة على ما هو عليه الوضع اليوم، من الانتشار والشمولية والدقة، وعليه مرّت إدعاءات هرتزل دون رقيب يظهر أن فلسطين بسكانها ال"ستمائة ألف" "عامرة بأهلها، كان بوسع الإنسان السفر من غزة أو بئر السبع في الجنوب حتى الحدود السورية في الشمال، أو من حيفا ويافا على ساحل البحر المتوسط، والاتجاه شرقاً فيما بعد البحر الميت دون أن يقابل يهودياً واحداً، إلا فيما ندر، كان فيها القليل منهم، ولم تكن تل أبيب إلا قرية صغيرة، كان الفلسطينيون أهل البلد، يملكون الأرض ويزرعونها، وكانت بلا شك ولا تحفُّظ بلداً عربياً"(1)، كانت مَصْيَفاً للأثرياء العرب والمُلاَّك الإقطاعيين من فلسطينيين وبيروتيين ودمشقيين وبغداديين، وحتى منتصف القرن التاسع عشر "لم يكن بها إلا أحد عشر ألف يهودي"(2) فقط. عندما شق الإنجليز قناة السويس واحتلوا مصر(1882) وضعوا نصب أعينهم احتلال فلسطين لتأمين خطهم التجاري مع الهند، والتقت المصلحة الاستعمارية الانجليزية مع المال والمخططات اليهودية؛ فتمّ اختلاق "الوعد الإلهي" لترويج الخطوة بين الشعوب، وبدأ تسريب اليهود إلى فلسطين بهويات بريطانية وفرنسية وايرلندية (1882م). في تلك الأيام، كانت فلسطين تُدار كإقطاعيات، وكان معظم الشعب الفلسطيني يعمل كأجير أو مزارع لدى الملاك الأثرياء، لم يكن هناك من موارد رزق أخرى، وأدى الاحتلال التركي الطويل لانتشار الفقر والأميّة؛ فعمدت شركات بريطانية وفرنسية لإغراء المّلاك على بيع بعض أراضيهم إليها، ومن هذه الشركات "ترست كولينيال جويف" و"كومسيون بولاركوليزاسيون" و"لابانك كولينفراتورتيس جويف" و"اوفيس دي لابالستين" و"سوسيتيه دوسول بالستين" وغيرهم كثير، وكانت الحكومة البريطانية وراء العملية لصالح اليهود. وتشهد ذاكرة فلسطين أنه "في عام 1886م هاجم الفلاحون الفلسطينيون المطرودون من الخضيرة وملبس و... قراهم التي بيعت لليهود"(3)، كما أن وجهاء القدس بعثوا وثائق للحاكم التركي عام 1891م تظهر قيام شركة بريطانية تدعى البيكا (شركة الاستعمار اليهودي) بشراء أراض لصالح اليهود في منطقة الخليل، وهو ما أدى إلى صدامات مع الفلسطينيين "منذ وصول قوافل اليهود الأولى"(4).
في عام 1904 بدأت الهجرة اليهودية الثانية لمهاجرين يحملون جنسيات أميركية وبريطانية، وأظهر إحصاء عام 1914 أن عدد اليهود في فلسطين أصبح 85 ألفاً. وما أن قامت الحرب العالمية الأولى حتى حلّ الخراب على فلسطين، توقفت الأعمال الزراعية وانتشر الجوع فاستغلَّت الشركات البريطانية هذا الأمر، وزاد في تدهور الأوضاع قيام الجيش التركي المنسحب بنقل الأموال والسندات الفلسطينية (الملكية) معه إلى دمشق، وإقدام الجيش البريطاني المحتل وبخطوة مدروسة على فرض الأحكام العرفية على الشعب الفلسطيني 33 شهراً متواصلاً فعمَّ الخراب والفقر. لكن ذلك لم يحجب عن أنظار الفلسطينيين خطورة ما يجري، وقاموا في عام 1918 بتشكيل "الجمعية الإسلامية المسيحية في القدس"(6) بهدف مواجهة عمليات بيع الأراضي وإجراء اتصالات مع الدول العربية المحيطة، كانت بريطانيا قد حرمت الفلسطينيين من حمل السلاح، وتولت تدريب الميليشيات اليهودية وأمدتها بالسلاح، وشكلت داخل وحداتها النظامية لواءاً يهودياً بقيادة جابوتنسكي، وقامت بتوظيف اليهود في المراكز الخدماتية والإدارية لإجبار الفلسطينيين على تعلُّم العبرية كل ذلك في سبيل تهويد الدولة، لكن لم ينثن الفلسطينيون؛ فعندما أعلن وعد بلفور(18 شباط 1920) انتفض الشعب الفلسطيني في كل المدن وشهدت القدس وحدها مسيرة ضمت 40 ألفاً وبدأت التعبئة.
* هبّة- 14 نيسان 1920
في 11 آذار وبضغط من المنظمات الصهيونية، أصدرت السلطات البريطانية أمراً بمنع المظاهرات الفلسطينية في عيد الفصح، تحدّى الفلسطينيون القرار وتجمعوا بالآلاف بين باب العمود وباب الخليل الأحد 14 نيسان 1920 ثم شنّوا هجوماً على الأحياء اليهودية بالسيوف والخناجر، استمر القتال ثلاثة أيام وسط أهازيج "بلادُ العُرْب أوطاني... من الشام لبغداد" أحرقت فيها محلات وبيوت اليهود رغم تدخل اللواء اليهودي البريطاني في المعركة(7)، أسفرت المعارك عن إصابة 250 يهودياً. في يوم 21 نيسان 1920 قامت القوات البريطانية باعتقال الأمير محمود الزناتي وسجنه في بيسان، اقتحم المتظاهرون وعشائر الغور السجن صبيحة اليوم التالي وأطلقوا سراح الأمير ورفاقه، أرسل البريطانيون قوات مدرّعة من حيفا وطبريا للقضاء على الثائرين إلا أن هؤلاء أغارو على سمخ وبيسان وعدة مستعمرات يهودية وأحرقوها، ودمّروا سكة الحديد بين حيفا ودمشق، وقطعوا خطوط الاتصال، ولم تتمكن القوات البريطانية من وقفهم "إلا بعدما قصفتهم بالطائرات"(8). وفي 29 نيسان 1920 أقرّ مؤتمر "سان ريمو" فرض الانتداب البريطاني على فلسطين فاندلعت المظاهرات العنيفة.
* هبّة أيار 1921
بدأت الاضطرابات أولاً بين اليهود، كانت السلطات البريطانية قد سمحت للمنظمات الصهيونية بإقامة مسيرات في أول أيار، سرعان ما اصطدموا مع الشيوعيين اليهود، وبسبب الاشتباك فرَّ الشيوعيون إلى حي المنشيِّة الفلسطيني شمال حيفا ولاحقهم الجيش البريطاني، وبدل اعتقالهم عمد إلى ضرب المواطنين الفلسطينيين بالهراوات فجرح واعتقل كثيرين منهم، انتشرت الأنباء في يافا فاندلع القتال، قام اليهود تحت حماية الجيش البريطاني بإطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين فازدادت المعارك شراسة وقتل 40 يهودياً وجرح 169، استمرَّت المعارك ثلاثة أيام فشل الجيش البريطاني في وقفها، وقام أهالي الرملة في 5 أيّار 1921 بالهجوم على مستعمرة رحبوت فتصدى لهم الطيران البريطاني وقُتِلَ في الإغارة 60 فلسطينياً. في يوم الجمعة 6 أيّار 1921 صلّى المسيحيون مع المسلمين في الحرم القدسي الشريف وصلّى المسلمون سبت النور في كنيسة القبر المقدس في تحدٍّ واضح لليهود والسلطة البريطانية. في 2 تشرين الثاني 1921 قام سكان القدس بمهاجمة حارة اليهود وقتلوا خمسة منهم، وفي 13 و14 حزيران 1922 شل الإضراب العام فلسطين، بين عامي 1923 و1924 أقامت بريطانيا تنظيمات فلسطينية موالية لها، وتحالفت مع الإقطاعيين وقياديين نافذين لوقف تنامي الشعور الوطني بين الفلسطينيين.
* هبّة آب 1929 (ثورة البراق)
يوم الأربعاء 14 آب 1929، قام اليهود بمظاهرات في تل أبيب بإيعاز بريطاني مطالبين بالسماح لهم بالصلاة أمام حائط "المبكى"! في 15 آب تجمعوا بأعداد كبيرة وأدّوا الصلاة أمام الحائط، وفي يوم الجمعة 16 آب خرج المصلون الفلسطينيون من الجوامع بالآلاف واتجهوا نحو حائط "البراق" وأحرقوا ما خلّفه اليهود، في 17 آب قُتل يهودي على يد فلسطيني في حادثة كرة القدم في لفتا، ردّ اليهود بمهاجمة الأحياء العربية في القدس وأصابوا عدداً من السكان بجراح وما إن انتهت صلاة الجمعة حتى تدفَّق الفلسطينيون بالآلاف نحو البراق، ثم توجهت الجموع إلى لفتا وهاجمت المستعمرات اليهودية، أدخل الجيش البريطاني "الدبابات" في المعركة لفك الحصار عن اليهود فتصدّت له النساء الفلسطينيات ورجمن الجنود البريطانيين بالحجارة، سرعان ما ثارت نابلس ثم الخليل حيث أُحرق الحي اليهودي فيها فقتل 71 يهودياً وجرح 50. في 25 و26 آب هاجم الفلسطينيون كل المستعمرات اليهودية في مرج ابن عامر. دمرت ست مستوطنات كلياً رغم قصف الأسطول البريطاني والطيران، وتدخلت المدفعية البريطانية الثقيلة لوقف الهجوم، غير أن الفلسطينيين تمكنوا رغم ذلك من اقتحام المعسكر البريطاني في حطّين، في يافا وحيفا وصفد قتل 45 يهودياً، وتم الاستيلاء على مراكز الشرطة ورفع عليها علم فلسطين، نقلت بريطانيا قواتها من مصر على عجل وأرسلت سفناً ومدمرات وطائرات حربية إضافية لوقف الانتفاضة، بلغ عدد قتلى اليهود 133 والجرحى 339، وقتل من الفلسطينيين بقصف الطائرات والمدفعية 116، اعتقل آلاف الفلسطينيين وحكم على 17 منهم بالإعدام، وفي 27 حزيران 1930 أعدم البريطانيون ثلاثة مجاهدين هم: عطا الزبير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي.
* هبّة تشرين الأول 1933
مع ازدياد الهجرة اليهودية بتغطية بريطانية أعلن الفلسطينيون عن إضراب عام في 27 تشرين أول، وعقب صلاة الجمعة في يافا خرجوا بالآلاف نحو الأحياء اليهودية تصدت لهم القوات البريطانية والإيرلندية بالدبابات كما قصفت الطائرات الحربية البريطانية في اليوم التالي المتظاهرين في حيفا ونابلس وغزة وعكا وطولكرم فسقط العديد من الشهداء. تلك هي ذاكرة فلسطين، نضال مشرّف، علينا حفظه لأجيالنا سبيلاً مقدساً لثورة مستمرة بإذن اللَّه حتى النصر والتحرير.
(1) الأب رالف جودمان، مقالة لمجلة الإشارة الكاثوليكية عدد نيسان 1957 بعنوان "الدموع التي تبتهل إلى اللَّه".
(2) لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ص158.
(3) عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، ص48.
(4) البرج، المسألة العربية، مجلد 3.
(5) يوسف لونتس، الشرق الجديد، مجلد 12، ص212.
(6) جريدة الكوكب، 1918 11 18.
(7) جريدة المقطم، 1939 8 21.
(8) أمين سعيد، الثورة العربية، ج3، ص88.
(-) الهبّة كلمة فلسطينية تعني الانتفاضة