الشيخ علي خازم
تجددت الدعوة إلى إحياء المطالعة كنشاط فردي واجتماعي بعد الطفرة الهائلة التي شهدتها أغلب المجتمعات المعاصرة في ابتداع أشكال من النشاطات الفردية والاجتماعية تحت عنوان "الهوايات". وقد اكتشفت الجهات العديدة المسؤولة عن الناشئة انخراط هذه الأخيرة في اتجاهات غير منتجة بل استهلاكية إلى أقصى الحدود على المستويين الفكري والمادي، الأمر الذي يؤثر في اتجاه هذا المجتمع أو ذاك نحو التنمية الاجتماعية بما تعنيه من نهوض حضاري، أو نحو التبعية الاجتماعية بما تعنيه من تحول إلى سوق عبيد مستهلكين وعمالة رخيصة للمجتمعات المنتجة.
* اختيارية أم إلزامية المطالعة؟
إذا كان المأثور الإسلامي يعتبر أن "من شاور الرجال شاركها في عقولها" فإنَّ المطالعة تشكّل أبرز مصداق للاستفادة من عقول المفكرين والمبدعين حيث تقرأ لهم خلاصة جهودهم العلمية أو الفلسفية أو الأدبية مما يعين على تشكيل العقول والقلوب وتربية الأجيال لتخدم أنفسها وأممها بالحضور في ساحة الحوار والصراع. إن المطالعة قد تأخذ جانباً ترفيهياً عن نفس الإنسان في بعض مظاهرها وهذا النوع من المطالعة لن يخلو من فائدة، إلا أننا نتحدث هنا عن المطالعة بما تعنيه من أساس لتشكيل شخصية علمية منتجة فتدخل عملية الدراسة المنهجية هكذا تحت عنوان المطالعة ولو أخذت صورة المطالعة الإلزامية أحياناً. ومن هذا الباب نجد أنَّ الدول المتقدمة وبعض الدول النامية تحرص على تجديد مناهج التعليم والتدريس فيها وفق خططها للتنمية والتقدم والازدهار. وتعمل بعض الدول المستكبرة كأمريكا مثلاً في هذا المجال على صعيدين: الأول احتكار بعض مجالات التعليم وحصرها بأبنائها أو من تطمئن إلى صيرورته في خدمتها، والثاني المنع بأشكال مختلفة من حصول بعض الدول على التقنيات التي تسمح باستقلال علمي يمكّن الإبداع من أن ينتج فيها. من هنا، نجد أن الاطلاع على النتاج العلمي والفكري المميز عمل عقلي مهم ومثمر في بناء الأفراد والمجتمعات.
* مطالعة القديم أم الجديد؟
قد يكون العنوان بديهياً، ولا يحتاج إلى كلام كثير لكننا نريد منه التوسعة في مجال المطالعة، فإنَّ حال الإلزام أو الالتزام بالمطالعة في أفق محدود هي أبرز أسباب دخول الأفراد والمجتمعات في حال الانحطاط الفكري والاجتماعي. وإن النظر في أحوال أي مجتمع مزدهر أو أي مجتمع متخلف يضعنا عند ملاحظة حاله العلمي والفكري فتجد في المجتمع المزدهر نهضة علمية فكرية تتمثل في الإبداع والاختراع بينما تجد المجتمع المتخلف يجتر النظريات والأفكار القديمة فاقداً أي قدرة على تطويرها أو الانطلاق منها إلى الجديد. وبكلام أوضح تجد هذه المجتمعات المتخلفة تعيد قراءة قديمها فتكثر فيها الشروحات أو المختصرات ولا ترى أن هذا القديم المهم اتخذ أهمية من كونه جديداً في وقته. وأن الخوف من آثار مطالعة الجديد الذي جاء به مجتمع آخر يضع سوراً مانعاً أمام عملية التطور والتقدم الاجتماعي. إنَّ الركون إلى التلقي والتكرار هو السكون، والإمام علي عليه السلام يقول: "من تساوى يوماه فهو مغبون" وهذا المبدأ ينطبق على الأفراد كما ينطبق على المجتمعات.
* المطالعة وبناء الشخصية الناجحة
لا نريد مما تقدم من كلام على كون المطالعة عملاً عقلياً وأنها أساس المعرفة والبناء افتراض اقتضاء المطالعة للإبداع المتميز عند كل مطالع فإنّ ذلك يرجع إلى مجموعة عوامل مختلفة والمطالعة إحداها لكننا إذ نؤكد على أن المطالعة كانت في التجربة الشخصية لكل مبدع وناجح ومخترع أحد أسباب اندفاعه إلى النجاح والإبداع كما تزخر بذلك سير حياتهم، فإننا نريد مع ذلك أن نبين أثر المطالعة المعرفي في رفع مستوى حياة الأفراد العملية في أي موقع من المواقع العلمية، لأن المطالعة تضعنا أمام كل جديد مفيد مهما كان الاختصاص الذي نمارسه، أو مهما كان العمل أو حتى الآلة التي نواجهها. ألسنا نجد من أنفسنا وبمثال بسيط جداً أننا لو حاولنا الاستفادة من أي آلة لا نستقصي كل فوائدها بدون الرجوع إلى دليل الاستعمال المرفق بها، بل أننا أحياناً نضطر إلى استخدام آلة إضافية بما يعنيه ذلك من هدر مال ووقت؟ ألسنا إذا كلفنا بعمل معين ولم نمتلك خبرة من سبقنا فيه والمتمثلة في إرشادات وقواعد ونتائج واضحة سنعيد كل عمليات التجربة والخطأ وفي ذلك هدر للوقت وعدم إتقان للعمل؟ المطالعة إذاً حاجة فردية واجتماعية ينبغي إشباعها لتحقيق النجاح والتقدم، ونحن مطالبون بإشاعة هذا المفهوم ودعم سبل توظيفه للنهوض بأمتنا، والأخذ به يحقق جانباً من إيماننا باللَّه إذا اعتبرناه مصداقاً لقوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ (الحج: 46).