مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

منشأ اللطم تاريخياً

الشيخ فيصل الكاظمي‏

 



تحتل فقرة (اللطم) موقعاً لافتاً في مراسم إحياء عاشوراء وما يتلوها، كما وتبرز واضحة في مجالس إحياء ذكريات وفيّات وشهادة المعصومين عليهم السلام، في المراكز التقليدية لهذه المجالس وهي المدن المقدسة الشيعية، بل وعموم التجمعات الشيعية الأخرى. وقد تطورت ظاهرة (اللطم) في مراسم العزاء، حتى صار لها أعراف خاصة، وأنماط معينة، وزاد من تطوّرها تخصص البعض في إنشاد الشعر الرثائي، ولا سيما الشعبي منه، وبطرق وأساليب تراعي تلك الأعراف والأنماط. وقد يتألق وبشكل لافت مع بعض المتميزين ممن يعرفون بـ(الرواديد) مفردهُ (رادود)، مأخوذ من ترديد الأبيات الشعرية الرثائية على وتيرة تتناغم مع نوبات اللطم.

وبعد تراكم أساليب وطرق (اللطم) المرتبط بمراسم عاشوراء، فقد تميزت بعض البلدان والمناطق، بنحو خاص وأسلوب معين من أساليب وطرق اللطم، المرتبط بمراسم عاشوراء، فللشيعة الهنود أسلوب أخّاذ وعاطفي جداً في نمط لطمٍ متواصل سريع ومثير، كما يتميز أهل البحرين بنمط خاص من اللطم، ذي النوبات الكثيرة المتواصلة بحماس وإيقاع خاص، بينما تجد البرود والهدوء سمة ظاهرة في اللطم الإيراني، كما وتجد طرق اللطم واضحة بين مدينة وأخرى، وحتى في البلد الواحد، فهذا لطم كربلائي، وهذا أسلوب نجفي وهكذا... إن اللطم يعتبر ظاهرة جديدة غير بعيدة الجذور في بعض المناطق، كما في لبنان وبعض القرى الشيعية بسوريا، إذ برزت مع نجاح الثورة الإسلامية انعكاساتها المتنوعة الجوانب ومنها ما يخص واقعة كربلاء، لا سيما في كثرة المجالس الحسينية وبروز ظاهرة اللطم الذي اتّسم بالسرعة والحماس. ولا بد من العودة لمحاولة تأرخة هذه الظاهرة، ورصد بعض الشواهد التي أشارت إليها، دون أن نتعرض لموقف الشرع منها إيجاباً أو سلباً، فلذلك بحث آخر. و(اللطم) لغة يأتي قريباً أو قد يكون مترادفاً مع مصطلح آخر وهو (اللدم). ففي لسان العرب: اللدم هو ضرب المرأة صدرها: "لدمت المرأة وجهها: ضربته"(1)، أي أن اللدم يعني ضرب الصدر أو ضرب الوجه على حدٍ سواء. أما معنى اللطم هنا "اللطم: ضربُك الخدَّ وصفحة الجسد ببسط اليد". وعن ابن الأعرابي: "اللطم: الضرب على الوجه بباطن الراحة.."(2). وفي المصباح المنير يأتي معنى اللطم بأنه "ضرب الوجه بباطن الكف"(3). وعن أقرب الموارد: "اللطم: الضرب على الخد ببسط الكف، واللكم بقبض الكف، واللدم بكلتا اليدين"(4). وفي المنجد: "إن اللدم هو ضرب الوجه في المآتم"(5). أما اللطم فهو: "ضرب الخدّ أو صفحة الجسد بالكف مفتوحة أو بياض الكف"(6).

وبعد هذا التوقف عند بعض معاجم اللغة، نجد أن معنى اللطم أو اللدم قد يأتي واحداً في المصطلحين، فهما لفظان مترادفان إذن. أما من الناحية التاريخية، المتعلقة بواقعة كربلاء، فإن أول إشارة، في هذا الموضوع، تبرز ليلة عاشوراء حينما أوضح الإمام الحسين عليه السلام لأخته زينب عليها السلام ما ستؤول الأمور إليه حيث بكت زينب عليها السلام ثم يذكر النصّ "وبكت النسوة معها، ولطمن الخدود، وصاحت أم كلثوم: وامحمداه واعلياه واإماماه واحسيناه واضيعتنا بعدك"(7). وأوردت بعض المصادر، إن أول إشارة كانت قد سبقت ما ذكرنا بساعات، أي في عصر يوم عاشوراء، حينما زحف الجيش الأموي نحو مخيم الحسين عليه السلام، والحسين كان قد خفق برأسه فأخبرها بما رآه في رؤياه له، فلطمت زينب وجهها وصاحت، فقال لها الحسين مهلاً مهلاً "اسكتي ولا تصيحي فيشمت القوم بنا"(8). ثم ذُكر لطم الوجه مرة أخرى، ساعة رحيل عائلة الحسين عليه السلام عن كربلاء يوم الحادي عشر من المحرم، فلما مرّوا بجثة الحسين وجثث أصحابه، صاحت النساء ولطمن خدودهن، وصاحت زينب: "يا محمداه صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء مرمّل بالدماء.."(9). وأما أول إشارة إلى لطم الصدور، فقد جاءت بُعيد مقتل علي الأكبر حيث رجع به الهاشميون إلى المخيم، فاستقبلته النساء، ينظرن إليه محمولاً قد جلّلته الدماء بمطارف العزّ حمراء، وقد وزع جثمانه الضرب والطعن "فاستقبلنه بصدور دامية.."(10). هذا بالنسبة لما ورد في كتب المقاتل، أما الذي ورد في قصائد الرثاء الحسيني، ذات الوفرة الواسعة، حيث لم يأت من الشعر الرثائي مثلما جاء في رثاء شعراء الطف، فأول إشارة إلى اللطم قد تكون في قصيدة دعبل الخزاعي، الذي ورد إلى مرو، بعد وصول الإمام الرضا عليه السلام إليها أيام كانت عاصمة الدولة الإسلامية في فترة حكم المأمون العباسي حيث مكث الإمام الرضا عليه السلام بمرو من سنة (203 - 199هـ). وقد تقاطر الشعراء على الإمام عليه السلام ومنهم دعبل بتائيته المشهورة والتي مطلعها:
 

نوائحٌ عجمُ اللفظ والنطقات‏

تجاوبن بالأرنان والزفرات‏


ويقول فيها:
 

إذن للطمت الخدّ فاطم عنده‏

أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً

وأجريتِ دمع العينِ بالوجنات(11)

وقد مات عطشاناً بشط فرات‏


إن ما ذكرناه يمكن أن نطلق عليه مصطلح (اللطم النعوي) وهو اللطم الذي صدر عن مفجوعات أهل البيت عليهم السلام، وقد برز (اللطم) كنمط من أنماط إبداء الحزن والتجاوب العاطفي مع أحداث كربلاء، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه (اللطم الهادف) أي الذي أصبح أسلوباً من أساليب إحياء واقعة الطف. وهذا النوع من اللطم (الهادف) الذي كان يبرز من شدة التأثر والتعاطف مع مصائب العترة الطاهرة عليها السلام ظل غير موثق حيث كان يبرز صدفة مع بعض الشوارد من الشواهد التاريخية أو الأدبية التي سجلتها بعض المصادر، كما قالته المصادر التي يمكن أن تُعنى بهذه الشعيرة من شعائر الطف. فقد سجّل ياقوت الحموي في معجم الأدباء وهو يترجم للشاعر الخالع الرافقي (433 - 333هـ)، "حدثني الخالع، قال: كنت مع والدي في سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وأنا صبي في مجلس الكبعذي في المسجد بين الورّاقين والصاغة (سوقان من أسواق بغداد) وهو غاصّ بالناس، وإذا برجل قد وافى، وعليه مرقعة، وفي يده سطحيّة وركوة ومعه عكاز، وهو شعث (وهي من صفات المتصوفة آنذاك)، فسلّم على الجماعة بصوت يرفعه، وقال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات الله عليها!!، فقالوا: مرحباً بك وأهلاً، فرفعوه، فقال: أتعرفون لي أحمد المزوّق النائح؟ قالوا: ها هو جالس، فقال: رأيت مولاتنا في النوم فقالت: امضِ إلى بغداد واطلبه، وقل له: نُحْ على ابني بشعر الناشئ، الذي يقول فيه:
 

بمثلِ مصابي فيكم ليس يُسمعُ‏

بني أحمدٍ قلبي لكم يتقطّعُ‏


وكان الناشئ حاضراً، فلطم لطماً عظيماً على وجهه، وتبعه المزوّق، والناس كلهم. وكان أشدّ الناس في ذلك اليوم الناشئ‏ ثم المزوّق، ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم، إلى أن صلّى الناس الظهر وتقوّض المجلس، وجهدوا بالرجل أن يقبل منهم شيئاً، فقال: والله لو أُعطيت الدنيا ما أخذتُها، فإنني لا أرى أن أكون رسول مولاتي عليها السلام، ثم آخذ ذلك عوضاً، وانصرف ولم يقبل شيئاً..."(12). فقد يكون ما حدث ببغداد آنذاك هو أول ما سجّل من لطم عام، انعكس على شيعة أهل البيت عليهم السلام بها، حيث يبدو أن اللطم صار أسلوباً من أساليب إبداء الحزن وإظهار الألم لواقعة الطف. على أن اللطم شهد أفضل أجواء له، بعد هذه الحادثة بسنين عدّة، وذلك في أيام البويهيين ببغداد، وبالتحديد منذ عاشوراء سنة 352ه إلى عاشوراء 477 حيث انتهى الحكم البويهي بمجي‏ء السلاجقة إلى بغداد. لقد نزلت مظاهر العزاء الحسيني إلى الشوارع العامة ببغداد، وبرزت بعد عشرات السنين من التغييب والكبت والاختفاء، وأسرعت أقلام المؤرخين وكتّاب السيَر إلى تسجيل ما حدث في بغداد يوم عاشوراء من تلك السنة، ثم استمرت لعدة سنين، أو بشكل متتالٍ طوال فترة الحكم البويهي الشيعي لبغداد إلى أن جاء السلاجقة حيث اختفت تلك المظاهر العزائية سنة 474ه. ويوضح السيد هبة الدين الشهرستاني الصورة بتفصيل أدق، حيث ذكر "كانت النساء تخرج ليلاً، والرجال نهاراً"(13).

 ويبدو أن ظاهرة اللطم العامة في بغداد هذه، والتي شهدتها شوارع بغداد أيام البويهيين، لم تمتد إلى مراقد الأئمة في العراق، سواء في كربلاء حيث منطلق الواقعة وساحتها، أو النجف أو الكاظمية فضلاً عن سامرّاء. ولو رجعنا إلى أيام الإمام الصادق عليه السلام (148- 83هـ) وتوقفنا عند حوار بينه عليه السلام وبين أحد أتباعه من الكوفة، وهو ابن حمّاد الكوفي الذي بادره الإمام متسائلاً بلغني أن قوماً يأتونه (قبر الحسين) من نواحي الكوفة، وناساً من غيرهم، ونساء يندبنه، وذلك في النصف من شعبان؛ فمن قارئ يقرأ، وقاصّ يقُصّ، ونادب يندب، وقائل يقول المراثي!. فقلت له: نعم جُعلت فداك قد شهدتُ بعض ما تصف. فقال عليه السلام: "الحمدُ للَّه الذي جعل في الناس، من يَفِدُ إلينا ويمدحنا ويرثي لنا"(14). حيث لم يذكر النصّ أعلاه اللطم بمفردة من مفردات إحياء واقعة الطف وإقامة العزاء على سيد الشهداء عليه السلام. نعم إن أول إشارة وردت إلى أن اللطم سُجّل كظاهرة في المراقد المقدسة، كان ببغداد في أواسط القرن الخامس الهجري، في مشهد الإمامين الكاظم والجواد عليه السلام (الكاظمية حالياً)(15). وقلّما تعرّض مصدر إلى مسألة اللطم وتسجيل رقم حولها، إلا ما ورد عرضاً، ومن الأمثلة القليلة على ذلك ما ورد في بعض كتب الرحلات القديمة أو المعاصرة مثل ما ورد في كتاب )رحلات عبد الوهاب عزّام( فقد جاء فيه وهو يصوّر دخوله إلى الصحن الحسيني المبارك بكربلاء: "ولجنا الباب إلى ساحة واسعة، فإذا إلى اليسار جماعة قد وقفوا صفوفاً يدقّون صدورهم دقاتٍ موحّدة موزونة، وأمامهم منبر عليه خطيب يتكلم عليهم..."(16). هذه بعض الشواهد والأرقام التي أمكن تهيئتها لتسليط الضوء على تأريخ ظاهرة اللطم ضمن شعائر العزاء الحسيني.


(1) ابن منظور، محمد بن مكرم المصري: لسان العرب، 12- 539، دار الفكر بيروت في 1990.
(2) م. ن ، ص‏542.
(3) الفيومي، أحمد بن محمد المقري: المصباح المنير، ص‏211، مكتبة لبنان، 1988.
(4) الشرنوبي، سعيد الخوري، أقرب الموارد في فصيح العربية الشوارد، 2 1137، مكتبة لبنان 1992.
(5) معلوف، لويس: المنجد في اللغة، دار المشرق، بيروت.
(6) م.ن، ص‏722.
(7) المقرّم، عبد الرزاق الموسوي: مقتل الحسين، ص‏218، دار الكتاب الإسلامي بيروت، ط1979,5م.
(8) الخوارزمي، عبد المولى بن أحمد، مقتل الحسين، 1 353، أنوار المؤمن رقم‏
(9) م.ن، 2 44.
(10) المقرّم، م.س، ص‏260.
(11) الحموي، ياقوت بن عبد اللَّه؛ معجم الأدباء 11- 9، الأصفهاني، علي بن الحسين: الأغاني 20 - 148.
(12) الحموي، ياقوت: معجم الأدباء، 13- 292.
(13) محسن الأمين: أعيان الشيعة 2 - 486.
(14) أبن قالوية: الكامل في الزيارات ص‏539.
(15) ابن الجوزي: المنتظم 7 23.
(16) رحلات عبد الوهاب عزام، ص‏58. (طبع في 1939م).

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع