مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإيمان ظاهرة إنسانية تجمع ولا تفرِّق‏

مقابلة مع سماحة الشيخ شفيق جرادي‏

حوار: موسى حسين صفوان‏


"الإيمان، هو هذا الإطمئنان وهذا السكون النفسي إلى ما تعتقد به وهو حالة إنسانية يتجه فيها الإنسان ليتمسك بالمعتقدات التي وثق بها، وهذه لعلها ما يمكن أن تجدها عند جميع الأطراف على اختلافهم...". بهذه الكلمات عرّف سماحة الشيخ شفيق جرادي، مؤسس ومدير "معهد المعارف الحكمية" الإيمان، عندما سألناه عن هذه الظاهرة الإنسانية التي لا تنفك تثبت يوماً بعد يوم قدرتها على دفع حركة التاريخ الإنساني... وبين "الاعتقاد" الذي تقابله في اللغة الأجنبية كلمة belief وبين "الإيمان" الذي تقابله عبارة faith، مسافة قد تكون ذات علاقة بطبيعة التعاطي الإنساني مع موضوع الإيمان، فهناك من يرتبط عندهم مفهوم الإيمان بقيم موروثة تتخذ صفة المقدّس، المنزَّه حتى عن النظر والبحث، وهذا النمط من الإيمان ذمَّهُ الإسلام، وذم أصحابه الذين يتبعون آباءهم بغير هدى ﴿... قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون (المائدة: 104).

وهناك من يجعل قلبه وعقله دليلاً له، وهؤلاء هم الذين توجه إليهم الأنبياء بالدعوة إلى اللَّه، وهم أهل الذكر وأهل التقوى وهم أولو الألباب... ولكن، بعيداً عن هذا وذاك يبقى الإيمان، بما هو قيمة إنسانية، تلك الظاهرة التي ما تزال تتحدى أعتى الرياح، لتمسك بيد الإنسان لتهديه إلى سواء السبيل... ففي أعماق النفس الإنسانية حنين يستمد من أصول الفطرة ويدفع الإنسان باتجاه الحق، وهو لن يهدأ حتى يصل به إلى شاطئ الأمان، وينزل به في ساحة الرحمة... والأمّة الإسلامية، كغيرها من الأمم، شهدت من التيارات الثقافية، خاصة خلال القرن الماضي، ما يكفي أن يزلزل الجبال الرواسي... ولكن الإيمان المتأصل في ضمير الأمّة أفراداً وجماعات ما لبث أن هبّ من جديد كأقوى ما يكون، فإذا بالعالم يعيش نهضة إيمانية معاصرة، جديرة بأن تُسجَّل وقائعها... هذا الهم حملناه إلى سماحة الشيخ شفيق جرادي، لننهل من معين معارفه الإسلامية الثرية.

* سماحة الشيخ، منذ بداية القرن الماضي وحتى السبعينات منه، بدا أن هناك تراجعاً في المعنويات، وعلى رأسها مسألة "الإيمان"، وبدا أن الأمور تمضي باتجاه المادية، وفجأة حصل الانقلاب، وعادت ظاهرة الإيمان كظاهرة إنسانية، كأقوى ما يكون، فما هو السبب؟
هل هو متعلق بتدافع الظروف السياسية والثقافية أم بأصل موضوع الإيمان وعلاقته بالإنسان؟ منذ ذلك الوقت الذي تتحدث عنه، كانت الأمور تتجه نحو الآثار التي تركها انهيار ما أطلق عليه اسم المجتمعات الإسلامية الحاكمة باسم الإسلام، أو الدول الحاكمة للمجتمع باسم الإسلام، وبروز الاتجاه الغربي، الذي شكل ما يمكن أند نسميه تحدياً في الوسط الثقافي الإسلامي بين ما هو شرق وما هو غرب، ممثلاً بالولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية من جهة، وبين الاتحاد السوفييتي وما استقطبه الاتحاد السوفييتي في حينه من جهة أخرى... كانت النزعة الموجودة عندنا في ذلك الوقت نزعة علمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، وتحويل كل الملفات الفكرية والثقافية إلى ملفات من هذا القبيل، وأحياناً كانت نزعة إلحادية حادّة مثَّلها الاتحاد السوفييتي في حينه، وبالتالي، فقد تشكلت مدارس ثقافية وأحزاب سياسية في أوطاننا العربية والإسلامية، تحت وطأة هذا التأثير، وهذه التدافعات السياسية والحضارية التي كانت تحصل، ولكن لما أخذت هذه التجارب تسقط رويداً رويداً، بسبب ممارسات أصحابها التي رافقها الكثير من التهتك ولمّا فشلت هذه النظم على أكثر من صعيد، عادت الاستقامة تدريجياً، وعاد الالتزام بالدين، وتشكلت جملة من الحركات التي كانت تحمل في عناوينها مسألة تبني موضوع الدين والالتزام الديني إلى أن حصل أن انتصرت الثورة الإسلامية المباركة في إيران وقدّمت نموذجاً راقياً لإمكانية أن يحكم الإسلام مجدداً، وأن يقدم مشروعه الحضاري، وأن يقدم مشروعه العقيدي والإيماني للأمَّة الإسلامية وللمجتمعات الإنسانية بما ينسجم مع هذا النظام الإيماني للدين...

* هل كان تراجع تلك الحركات بسبب قيمها المعرفية أو بسبب قوّة الإيمان وقيمته كقوة في الضمير الإنساني؟
نحن تحدثنا عن سبب واحد، ولكن هناك أسباباً أخرى، فلعل هذه النظم المعرفية التي تصادمت مع القيم التي تؤمن بها شعوب المنطقة، كان بإمكانها أن تكبت أمراً بشرياً لفترة معينة هذا أمر ممكن، إلا أنه من غير الممكن أن تزيل ذلك الإيمان، وبالتالي عندما توافرت المناخات الملائمة لحركة الشعوب فقد عادت مجدداً لبعدها الإيماني وقيمها الإيمانية. وهكذا قامت بتلك الانتفاضات المعرفية والاجتماعية والسياسية.

* هناك تفاوت في طبيعة الإيمان ما بين دين ودين، فعند النصارى هناك الإيمان بالسر، وعند المسلمين، الإيمان بعقيدة، وعند غيرهم صور أخرى، فهل الإيمان حقيقة ذات بعد معرفي، أم هي ظاهرة إنسانية معنوية؟
الأصل في موضوع الاختلاف هو اختلاف عقائد قبل أن يكون في الجانب الإيماني، لأنه إذا قلنا أن الإيمان هو هذا الاطمئنان وهذا السكون النفسي إلى ما تعتقد به، إذاً يمكن للمسيحي أن يمتلك ما يحصل به إيمانه الخاص، ويمكن للمسلم أيضاً فيما يعتقد به أن يحصل إيمانه أيضاً... الغاية من الكلام هو فيمَ تؤمن؟ بأي أمر أنت تؤمن؟ وحينما نقول بأي أمر... نحن نتحدث عن الجانب الاعتقادي، فالخلافات الموجودة بين الأديان هي خلافات في الإيمان الاعتقادي، يعني في نوعية هذا الإيمان الاعتقادي، وإلا فالإيمان كإيمان، هو حالة نفسية يتجه فيها الإنسان ليتمسك بالمعتقدات التي وثق بها، المعتقدات التي اقتنع بها، هذه الحالة، لعلها، يمكن أن تجدها عند الأطراف كافة، على اختلافهم.

* في القرآن الكريم يقول اللَّه تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم (الحجرات: 14)، هنا جعل القرآن الكريم مسافة بين الالتزام أو التبني العقائدي، وبين الإيمان، فهل نستطيع أن نلمس مفهوماً للإيمان أبعد من الالتزام العقائدي؟
 يقول سبحانه وتعالى لهم، إن هذا المعتقد الذي وصل إليكم، أنتم قلتم به، لكنكم بعد لم تتمسكوا به حقَّ التمسك، وحين تتمسكون به حق التمسك، هذا يسمى إيماناً، وفي هذا إشارة إلى أن كل أمر أنت تعتقد به، فحينما يصير هذا الأمر حياتك وكيانك وفكرك فيصير الأمر متعلقاً بالإيمان.

* هل نفهم أن الإيمان هو منطق أعلى من المنطق المعرفي؟ ففي كتاب اللَّه يتحدث عن روح الإيمان(1) يعني هناك مرحلة فوق الاعتقاد. فوق تبني الإسلام والالتزام بالعقيدة وهي مرحلة روح الإيمان؟
أنا أوافق على ذلك، وهو أنه بعد الاعتقاد تحصل عند الإنسان المؤمن حالة من الاطمئنان وذلك الذي يسمونه إيماناً، نعم، ولكن هذه الحالة غير مستقلة عن الاعتقاد بل هي مرتبطة به.

* في الثقافة الإسلامية يطرح الإيمان تارة بلحاظ نتاجه السلوكي، وأخرى بلحاظ نتاجه الاجتماعي أو الاقتصادي وغيرها... ولكن، هل نستطيع تحديد مفهوم الإيمان كقيمة إنسانية معنوية بغض النظر عن آثاره الأخرى؟
لا، طبعاً، بعض التعريفات للإيمان؛ مثل الإيمان ما وقر في القلب، وما صدقه العمل، فإذاً، جملة هذه الأمور؛ الإقرار المعرفي، وتصديق القلب به، كتعلقٍ روحي، أقررنا به على المستوى النظري والفكري، فلو صدقنا هنا، فهذا يعني أن حياتنا وسلوكنا أصبحا منسجمين مع ما نعتقد به، ومع ما تهفو إليه نفوسنا، وبالتالي فإن الإيمان هو أمر ينظم لك عقلك، وينظم لك أبعادك المعنوية، كما أنه ينظم لك أيضاً سلوكك العملي، مجموع هذه المسائل هي حالة إيمانية، أي أن المغزى هو هذا التطابق الدقيق والوثيق بين ما هو في نفسك وبين ما تؤمن به وهو الذي يسمونه بالإيمان.

* هل يمكن أن نعثر على قيم للإيمان خارج اطار الفهم الديني... وكيف تؤثر هذه القيمة في حركة الحضارة الإنسانية؟
طبعاً يمكن لكل أمّة، ولكل معتقد أن يتحدث عن إيمانه الخاص، لكن هذا الانجذاب نحو إيمانه الخاص قد يناقش فيه، هل هو إيمان صادق أو أنه ليس بإيمان صادق؟ هل هو إيمان مبني على واقعية أو أنه إيمان مبني على وهم؟ نحن لا نناقش في إيمان هذه الشعوب بما تعتقده وما تؤمن به، بقدر ما نناقش في المضمون، المضمون هو الأصل في مثل هذا النقاش وبالتالي، المشكلة بيننا وبين الاتجاهات الأخرى مشكلة تتعلق بالبحث بالمضمون، وإلا فمن حق أي إنسان أن يتعلق بما يؤمن به، لكن ليس من حقه أن يحاصر وأن يختزل الآخرين، بأن هذا الذي أؤمن به لا يحمل أي نقاش، من حقنا أن نناقش، ومن حقنا أن نتبين، ومن حقنا أن نلتقي...

* هناك نوعان من الناس، المبالون، واللامبالون، وفي القرآن الكريم آيات للمتقين، وأخرى لقوم يعلمون، وأخرى لقوم يعقلون، وأخرى لأولي الألباب وأخرى للذين آمنوا... هل نستطيع إيجاد علاقة بين هذه المفردات وبين الإيمان، وبالتالي هل نستطيع إيجاد منهج سلوكي لإنتاج الإيمان كقيمة معنوية؟
طبعاً، هذا السؤال يحتاج إلى الكثير من التفصيل، لكن بالعموم، هذه المواصفات هي مواصفات أهل الإيمان، إنهم من أهل التعقل، وأهل اللب، وأهل السرِّ، إلى ما هناك، وهذه يمكن من خلالها أن نوجد قيماً سلوكية للإنسان، لا أظن أن الشريعة بالأساس، والحكم الشرعي، والتوجيه والإرشاد الذي يقدمه النبي صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام والذي هو موجود في كتاب اللَّه العزيز سوى تعليمات تتعلق بكيفية تحول الإيمان إلى سلوك وبرنامج سلوكي يخوضه الإنسان المؤمن، وبالتالي، نعم، يمكن ترجمته إلى برنامج سلوكي، شرط الاهتداء والاقتداء بنص المعصوم المتمثل بالقرآن وبما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وآله عليهم سلام اللَّه.

* هناك تشابه في كثير من الأحيان بين الإيمان والتوهم، كيف يمكن أن نفرق بينهما، خاصة إذا كانت العلاقة المعرفية بالإيمان ضعيفة وتشوبها الشبهات؟
طبعاً دائماً هناك تهم متبادلة عند من لا يؤمن بشي‏ء، يتهم هذا الذي يؤمن به أنه متوهم. لكن، أستطيع القول، أن الفرق ما بين الإيمان والوهم أن الوهم هو أن تتعلق بشي‏ء، مجرد تعلقٍ نفسي دون أن يكون لهذا الشي‏ء أي واقع موضوعي قائم بنفسه، أما الإيمان فهو عبارة عن هذا النزوع النفسي، وهذا الانجذاب النفسي نحو أمرٍ، هو فعلاً قائم، وله واقعية وموضوعية، هنا نحن نعتقد أنه على المستوى الإسلامي، أول ما نؤسس، نؤسس واقعية الأمور باعتقادنا، وموضوعية الأمور باعتقادنا، وبعد ذلك تأتي مسألة الإيمان بها كحالة يتجه فيها انجذاب الباطن نحو هذه القناعات والموضوعيات، مما يعني أن هذا الانجذاب ليس أمراً متوهماً، بل هو أمر واقعي تطابقي بين ما أنت عليه من حالة انجذاب، وما هو عليه الواقع الموضوعي القائم في الخارج.


 (1) سورة المجادلة، الآية: 22.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع