الإمام الخامنئي دام ظله
إن عرض الإسلام بشكله المسلكي الاجتماعي مع امتلاكه للأصول المنسجمة والمتناغمة ذات الأبعاد الشاملة للحياة الإنسانية يعتبر اليوم من أولى الضروريات للفكر الديني.
لقد كانت الأبحاث والتحقيقات الإسلامية قبل اليوم في الغالب فاقدة لهاتين الخاصتين الفائقتين في الأهمية مما كان يجعل الباحثين والمحققين في عملية مقارنة الإسلام بالمدارس والمسالك الاجتماعية العصرية كما ينبغي، غير قادرين على الوصول إلى نتيجة مثمرة وحكم قاطع. وبتعبير آخر يبقى هؤلاء عاجزين عن عرض هذا الدين بصورة مترابطة ومتحدة الأجزاء ومقارنته بسائر المدارس والأديان.
إضافة إلى أن الأبحاث بشكل عام ذهنية (فكرية) وتنجز في محيط بعيد عن التأثير العملي والواقعي وخاصة الاجتماع وهي لا تؤدي إلا إلى المعرفة الذهنية وهي لا تبين الالتزام والتكليف أو النظرية الواضحة بالنسبة للحياة الاجتماعية الإنسانية وخاصة بالنسبة لتعيين شكل ومحتوى المجتمع.
وكلمة أخرى وهي أن القرآن - ذلك السند القاطع واليقيني للإسلام - في أكثر الموارد لم يجد حظاً للبحث والبيان وبدلاً منه استعيض بالأبحاث والتعمقات شبه العقلية أو الروايات والمنقولات الظنية - وأحياناً باعتبار أكثر - وكانت النتيجة أن الأفكار العقائدية المنفصلة عن القرآن واللامبالية به نشأت ونمت وتشكلت. ولعل هذا الانفصال وعدم الاعتناء أو الشعور بعدم الحاجة واليأس من إمكانية الاستفادة الصحيحة - وكل واحدة منها ناشئة من عوامل خاصة - أدت إلى ترك التدبر في الآيات القرآنية والاستعاضة عنه بالقراءة والتلاوة الأخروي وهكذا أصبح الكتاب الإلهي الكريم في معرض العامة وخداعهم.
وبالالتفات إلى هذه الواقعية يمكن أن نعتبر بشكل ملخص ثلاث خصوصيات مهمة في الأبحاث الفكرية الإسلامية كضرورة يعد التخلف عنها غير لائق بالمفكرين الواعين والمسؤولين في هذا العصر:
الأولى: إن المعارف والأنظمة الفكرية الإسلامية خارجة عن التجرد والذهنية المحضة - مثلها مثل كافة المدارس الاجتماعية - وهي ناظرة إلى التكاليف العملية وخاصة في الحياة الاجتماعية، ولهذا ينبغي التأمل والتحقيق في الخطوط التي تعرضها لحياة الإنسان وهدفه في هذا الوجود وطريق وصوله إلى هذا الهدف.
الثانية: مطالعة المسائل الفكرية الإسلامية بصورة مترابطة وكأجزاء لوحدة واحدة، ودراسة كل واحد بلحاظ أنه جزء من مجموع الدين وعنصر من هذا المركب وركن من هذا البناء وهو مرتبط بالأجزاء والعناصر الأخرى حتى يتم من معرفة هذه الأصول استنتاج الخطوط العامة والشاملة للدين بصورة أيديولوجية كاملة غير مبهمة ذات أبعاد متناسبة مع حياة الإنسان ذات الأبعاد المختلفة أيضاً.
الثالثة: عند استنباط وفهم الأصول الإسلامية ينبغي الاعتماد على المتون والمصادر الأساسية للدين دون الآراء والتحليلات الشخصية أو الإلقاءات الفكرية من هنا وهناك... حتى تكون نتيجة البحث "إسلامية" بحق ولا غير. ولأجل تحقيق هذا الهدف، فإن القرآن هو أكمل وأوثق سند يمكن الاعتماد عليه؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه" "وفيه بيان لكل شيء" وبالطبع في ظل التدبر العميق الذي أمر القرآن به.
ما جمع في هذه الرسالة [المقالات] نموذج من هذا السعي لتأمين هذه الأهداف بشكل تقرير عن الإسلام في سلسلة محاضرات:
وقد سعينا في هذه المحاضرات أن نبحث في أهم الأصول الفكرية للإسلام في أكثر أبعاده بناء وحيوية من خلال آيات القرآن المبينة. وضمن الشرح المبين الذي يعلم القراء كيفية التدبر والتعمق في القرآن حددنا الأصول المذكورة في الآيات واستفدنا في الأماكن اللازمة من الروايات الصحيحة الصادرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام لأجل التوضيع والتأكيد لتتبين أثناء التأمل والتدبر في الآيات القرآنية أصول الإسلام أيضاً من الناحية العملية والتكليفية كإحدى نقاط أسلوب التفكر والأيديولوجية في الإسلام. 1396هـ.
* الإيمان
إن سعي الإنسان وحركته - التي هي فلسفة وجوده - له نقطة بدء وانطلاق... وهي الإيمان.
الإيمان يعني التصديق، والقبول والتمسك بذلك الشيء الذي ينبغي أن يسعى إليه وبذلك الطريق الذي يوصله... وأخيراً بنفس هذا السعي والتحرك.
بدون الإيمان فإن كل حركة وسعي تكون غفلة وهباء، وكل توجه يكون ميتاً بدون نشاط وتكون عاقبته الخمود والركود.
واستناد القرآن على "الإيمان" و"المؤمن" وتعريفه لهذه الصفة على أنها أعلى القيم وأعظم الخصال الإنسانية ينبعان من هذه الواقعية.
لننظر إلى تقسيم القيم الإسلامية التي هي من الدرجة الأولى في الآية التالية وإلى الإيمان - الذي جعل على رأسها - ونفكر فيها:
﴿ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة.وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون﴾ البقرة/177.
ولهذا نجد القرآن في جوابه أهل الكتاب الذين اعتبروا أن اليهودية والنصرانية هي الوسيلة الوحيدة للفوز والفلاح يطرح الإيمان الإسلامي الواسع ويعتبره مؤدياً إلى الهداية:
﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا﴾ (البقرة 135-136).