الشيخ علي حايك
إنّ الإنسان بطبعه يتأثر وينفعل أكثر عندما يتجسد المعنى أمامه بحركات وأفعال تحكي تفاصيل ما وقع من أحداث، ومهما كان المتكلم بارعاً في بيان المعنى عبر الألفاظ والكلمات فسوف لن يؤثر في السامع ذلك التأثير الذي يحدثه نقل المعنى عبر التجسيد والتمثيل، والقصة هي إحدى الأساليب التي تنقل المعنى وتجسده أمام السامع. والقرآن الكريم استخدم أسلوب القصة بهدف تركيز وتأصيل المفاهيم في نفوس وعقول الناس. ونحن سوف نتعرض لمفهوم التوبة عبر عرض بعض القصص التي وردت في أخبار أهل البيت عليهم السلام وكتب العلماء.
1- قصة نباش القبور (بهلول)
روى الشيخ الصدوق (رحمه اللَّه) في كتاب الأمالي(1) عن معاذ بن جبل ما خلاصته: دخل معاذ على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال له: إن في الباب رجلاً يبكي بكاء الثكلى على ولدها، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله أدخله يا معاذ، فأدخله، فسلّم الشاب على الرسول فردَّ عليه السلام وقال له صلى الله عليه وآله : ما يبكيك يا شاب؟ قال الشاب: كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوباً أن أخذني اللَّه ببعضها أدخلني النار، ولا يغفر لي أبداً. قال النبي صلى الله عليه وآله: هل أشركت باللَّه؟ قال الشاب: أعوذ باللَّه. قال النبي صلى الله عليه وآله: أقتلت النفس التي حرم اللَّه؟ قال الشاب: لا. قال النبي صلى الله عليه وآله: يغفر اللَّه لك ذنوبك وإن كانت مثل الجبال الرواسي. قال الشاب: إن ذنوبي أعظم من الجبال الرواسي. قال النبي صلى الله عليه وآله: يغفر لك ذنوبك وإن كانت مثل الأراضين السبع، قال الشاب: فإنها أعظم من ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وآله: يغفر اللَّه لك ذنوبك وإن كانت مثل السموات السبع ونجومها ومثل العرش والكرسي. قال الشاب: فإنها أعظم من ذلك يا رسول اللَّه. فنظر النبي صلى الله عليه وآله إليه كهيئة الغضبان ثم قال: دعك يا شاب، ذنوبك أعظم أم ربك؟ فقال الشاب: سبحان ربي، ربي أعظم يا نبي اللَّه من كل عظيم. قال النبي صلى الله عليه وآله: ويحك يا شاب ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك؟ قال الشاب: بلى أخبرك، إني كنت أنبش القبور سبع سنين، أخرج الأموات، وأنزع الأكفان، فماتت بنت من الأنصار، فحملت إلى قبرها ودفنت، وانصرف عنها أهلها وجنَّ عليها الليل، فأتيت قبرها فنبشتها، ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها، وتركتها متجردة وانصرفت، فأتاني الشيطان، فأقبل يزينها لي، فلم أملك نفسي حتى فعلت ما فعلت فما ترى لي يا رسول اللَّه؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله تنح عني يا فاسق، إني أخاف أن أحترق بنارك، فما أقربك من النار! ثم لم يزل صلى الله عليه وآله يقول ويشير حتى أبعده من بين يديه.
فذهب الشاب إلى المدينة وتزوّد بالطعام والشراب ثم أتى بعض الجبال، فغلّ يديه جميعاً إلى عنقه، وأخذ يتعبد بالدعاء والبكاء أربعين يوماً ثم قال: اللهم ما فعلت في حاجتي؟ إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي فأوحِ إلى نبيك، وإن لم تستجب لي دعائي ولم تغفر لي خطيئتي وأردت عقوبتي، فعجّل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني وخلصني من فضيحة يوم القيامة. فأنزل اللَّه تبارك وتعالى على نبيِّه صلى الله عليه وآله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾. فخرج النبي يتلوها ويتبسم فقال لأصحابه من يدلني على ذلك الشاب؟ فقال معاذ: إنه في موضع كذا، فمضى الرسول صلى الله عليه وآله وأصحابه فوجده على تلك الحالة وقد تساقطت أشفار عينيه من البكاء، فدنا منه النبي صلى الله عليه وآله، فأطلق يديه ونفض التراب عن رأسه، وقال لأصحابه: هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول، ثم تلا الآية، وبشّره بالجنّة.
* توبة رجل عند أمير المؤمنين
روى الشيخ الكليني في الكافي(2) عن الإمام الصادق عليه السلام قال: بينا أمير المؤمنين في ملأ من أصحابه إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام(3) فطهرني، فقال له: يا هذا إمضِ إلى منزلك لعل مراراً هاج بك فلما كان من غدٍ عاد إليه فقال له مثل ذلك فقال له عليه السلام امضِ إلى منزلك لعل مراراً هاج بك حتى فعل ذلك ثلاثاً بعد مرته الأولى فلما كان في الرابعة قال له: يا هذا إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيهن شئت، قال: وما هنَّ يا أمير المؤمنين قال: ضربة بالسيف في عنقك أو رمي من جبل مشدود اليدين والرجلين أو إحراق بالنار. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أيهن أشد عليَّ. قال عليه السلام: الإحراق، قال الرجل: فإني اخترتها فقال عليه السلام: استعد لذلك فقام الرجل فصلى ركعتين ثم جلس في تشهده فقال: اللهم إني قد أتيت من الذنب ما قد علمت، وإني تخوفت من ذلك فجئت إلى وصيِّ رسولك ابن عم نبيك وقد أخذت أشد الأصناف، اللهم فإني أسألك أن تجعل ذلك كفارة لذنوبي وأن لا تحرقني بنارك في آخرتي، ثم قام وهو باكٍ حتى جلس في الحفرة التي حُفرت له وهو يرى النار تتأجج حوله قال: فبكى أمير المؤمنين وبكى أصحابه جميعاً، فقال له أمير المؤمنين: قم يا هذا أبكيت ملائكة السماء وملائكة الأرض، فإنّ اللَّه قد تاب عليك فقم ولا تعاودنَّ شيئاً مما فعلت.
3- توبة بشر الحافي
كان بشر الحافي من أهل المعازف والملاهي في بغداد وبعدما تاب على يدي الإمام الكاظم عليه السلام أصبح من العرفاء الزّهاد وقد ذكر المؤرخون في سبب توبته أن الإمام عليه السلام حين اجتاز على داره ببغداد سمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تعلو من داره، وخرجت منها جارية وبيدها قمامة فرمت بها في الطريق، فالتفت الإمام إليها قائلاً: "يا جارية: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فأجابت: حر. فقال عليه السلام: صدقت، لو كان عبداً لخاف من مولاه. ودخلت الجارية الدار، وكان بشر على مائدة السكر، فقال لها: ما أبطأك! فنقلت له ما دار بينها وبين الإمام عليه السلام فخرج بشر مسرعاً حتى لحق الإمام عليه السلام فتاب على يده، واعتذر منه وبكى وبعد ذلك أخذ في تهذيب نفسه واتصل باللَّه عن معرفة وإيمان حتى فاق أهل عصره في الورع والزهد. لقد أعرض بشر ببركة توجيه الإمام الكاظم عليه السلام له وتنبيهه عن غفلته حتى أعرض عن زينة الحياة الدنيا ورضي بالقناعة وقال فيها: "مروءة القناعة أشرف من مروءة البذل والعطاء"(4). وممّا رواه الخطيب البغدادي عنه أنه جعل يبكي يوماً ويضطرب ويقول: "اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا ونوّهت باسمي ورفعتني فوق قدري على أن تفضحني في القيامة، الآن فعجّل عقوبتي وخذ منّي بقدر ما يقوى عليه بدني"(5). وروي عن حجّاج بن الشاعر أنّه كان يقول لسليمان اللؤلؤي: رؤي بشر بن الحارث في النوم فقيل له: ما فعل اللَّه بك يا أبا نصر؟ قال: غفر لي، وقال: يا بشر: ما عبدتني على قدر ما نوّهت باسمك.
(1) أمالي الصدوق، ص100- 97.
(2) الكافي، ج7، ص201.
(3) أي فعل معه الفاحشة.
(4) تاريخ بغداد: 79 7.
(5) نفس المصدر: 81 7.