سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
يستطيع الإنسان أن يستحضر كُلّ عمره الذي مضى ويشعر كأنّه يومٌ أو بعض يوم. ولا يستطيع أحد منّا أن يدّعي أنه لم يرتكب ذنباً أو خطيئةً، إلّا مَن عصمه الله سبحانه وتعالى. فحالتنا، نحن في الأعمّ الأغلب، أننا نرتكب بعض الذنوب. وهذا هو الأمر الذي نريد أن نعالجه.
*الذنب: طاعة الهوى
الذنب هو فعل الحرام، مثلاً: أكلُ مال الحرام، أكل مال اليتيم، سرقة أموال الآخرين أو ظلم الآخرين. الذنب أيضاً يكون بترك الواجبات: ترك الصلاة، الصيام، ترك الحجّ. فالذنوب هي أكبر مصيبة للإنسان في حياته، وهي الباب الذي تُفتح منه كُلّ أبواب المصائب والعذابات والآلام في الدنيا وفي الآخرة.
فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، نفخ فيه من روحه، وأكرمه، وجعله سيّد الكائنات، كما أنّ الله تعالى رزق هذا الإنسان وأعطاه العقل والموهبة والقدرة، وسخّر له كُلَّ شيء لطفاً ورحمةً. لكنّ المشكلة هي من طرف الإنسان، كيف كان يُقابل كُلّ هذه النِعم وكُلّ هذا الجود والكرم الإلهيّ. فالإنسان يغلبه هواه وتغلبه شقوة نفسه الأمّارة بالسوء، وشيطانه، الذي يوسوس له ليلَ نهار، فيرتكب الذنوب والمعاصي والآثام. وهذه تمنعه من الاقتراب من الله سبحانه وتعالى، ومن رضاه. وإذا استكبرنا وأصررنا على الذنوب نصل إلى مرحلة خطيرة جداً، والعياذ بالله، يُعرِض الله سبحانه وتعالى بوجهه الكريم عنّا، مرحلة يَكِلُنا الله فيها إلى أنفسنا، وينسانا، فتكون تلك أسوأ مرحلة يمكن أن يصل إليها الإنسان.
* إنما يعذّبهم بذنوبهم
ورد في الآيات والروايات، أيضاً، أنّ الذنوب التي يرتكبها الإنسان لها آثار في الدنيا، وفي الآخرة. وآثار هذه المعاصي والذنوب لا تقتصر على الأشخاص الذين يرتكبونها، إنّما على عامّة الناس، كما ورد فيها أنّ للطاعات بركات.
أشار الله سبحانه وتعالى في القرآن إلى أنه لا يعذّب الناس في الدنيا والآخرة إلّا بذنوبهم، فقد خلقهم ليرحمهم، ولكنهم اختاروا طريق العذاب. بسم الله الرحمن الرحيم ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (آل عمران: 11)، ويقول عزّ وجلّ: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾ (العنكبوت: 40). فالله سبحانه وتعالى إنّما يُدخل الناس إلى جهنّم بظلمهم وبذنوبهم.
فهل هناك إمكانية لأن نتخلّص من ذنوبنا ومن آثامنا لنبدأ حياةً جديدة؟ لقد دلّنا الله سبحانه وتعالى وأرشدنا على الطريق. وهذه من نِعم وجود وبعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويكون ذلك من خلال:
1 - اجتناب المعاصي
يخاطب الله سبحانه وتعالى عباده، بهذا المعنى، فيقول: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ (الطلاق: 5)، يتّقي الله: يعني يجتنب المعاصي والذنوب والآثام، عند ذلك، يفتح الله له باب المغفرة، وهنا وعد الله أن يغفر لنا.
ويقول الله عزّ وجلّ: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الأنفال: 29). الله أيضاً لا يغفر فقط وإنما يعظّم لنا الأجر، وفي بعض الآيات يبدّل سيئاتنا حسنات، يقول تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا﴾ (النساء: 31).
وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام إذا وقع أحدٌ بين اجتناب السيئة واكتساب الحسنة، قوله عليه السلام : "اجتناب السيّئات أولى من اكتساب الحسنات"(1)؛ لأنّ السيئات تحول بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى.
2 - فعل الطاعات والخيرات
وهو فعل الصالحات وفعل الخيرات والطاعات، على قاعدة ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (هود: 114). يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (العنكبوت: 7)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (هود: 114)، ويعني ذلك أنّ مُطلق الأعمال الحسنة يُساعد في محو السيئات.
بعض الناس يستغرب كرم الله سبحانه وتعالى، مثلاً: مَنْ تكفّل يتيماً أو ثلاثة أيتام يعطيه الله كذا وكذا وكذا، ويغفر له كذا وكذا. من كرم الله تعالى، بحسب الروايات، أنه إذا التقى صديقان في مكان ما، وتصافحا وتعانقا وتحدثا بطيب الكلام، تتساقط ذنوبهما كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف. كذلك إنّ قضاء حوائج الإخوان، له تأثير كبير في غفران الذنوب. وإغاثة الملهوفين تؤدي إلى غفران كبائر الذنوب، ففي الرواية: "من كفّارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب"(2)، هذا كله من فعل الطاعات. كذلك حُسن الخُلق: "إنّ حُسن الخُلق يذيب الخطيئة كما تُذيب الشمس الجليد"(3)، أيضاً كثرة السجود، والصلاة على محمد وآل محمد، ففي الحديث الشريف: "من لم يقدر على ما يكفّر به ذنوبه، فليكثر من الصلاة على محمد وآله، فإنّها تهدم الذنوب هدماً"(4).
3 - الجهاد في سبيل الله
من أبواب المغفرة والتوبة، ومن الأبواب التي تُطفئ الذنوب والمعاصي، أن يُجاهد الإنسان في سبيل الله، وهذا هو الربح الحقيقيّ. قال تعالى: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (الصف: 10-12). فالذين يجاهدون بأنفسهم وبأموالهم وبما خوّلهم ربّهم، وجهادهم خالصٌ لوجه الله سبحانه وتعالى. هذا يكون كفارةٌ لذنوبهم. فقمّة الجهاد وغايته هي الشهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ لذلك عندما يُستشهد الإنسان فإنّ أول ما يحصل عليه غفران كُلّ ذنوبه نتيجة شهادته.
4 - البلاء والامتحان
ورد في العديد من الروايات والأحاديث الشريفة أثر البلايا والامتحانات: فتن، أمراض، فقر ومظلوميّة... وكلّ ما نواجه في الدنيا. إذا تحملناها وصبرنا، وواجهناها بمسؤوليّة شرعيّة، فإنّ ذلك يؤدي إلى تمحيص الذنوب والآثام والخطايا، فنخرج من الدنيا كيوم ولدتنا أمهاتنا.
5 - الاستغفار والتوبة
طلب الله سبحانه وتعالى منّا أن نتوب إليه، وأن نستغفره، يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31)، ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: 39).
وذلك ضمن الإجابة كما يقول الله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَهِ﴾ (الزمر: 53). فمهما كانت هذه الذنوب كبيرة وعظيمة، يا عبادي، لا تيأسوا ولا تقنطوا. في آيةٍ أخرى ورد تشديدٌ وتأكيدٌ ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (طه: 82). الغفّار يعني كثير المغفرة، كثير القبول للتوبة. والاستغفار يكون من خلال:
أولاً: الاعتراف والإقرار بالذنب بين يدي الله عزّ وجلّ. وقد ورد في الحديث: "المقرّ بالذنب تائبٌ"(5).
ثانياً: الندم، بعض الروايات يفيد أنّ من أسوأ حالات الإنسان أن يلتذّ بالمعصية ويفرح بارتكاب المعاصي والذنوب، فهذا ذنبٌ من أعظم الذنوب. عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "الندم توبة"(6) و"كفى بالندم توبة"(7).
ثالثاً: أن يعاهد الله على أن لا يرجع للذنوب والمعاصي، ولا إلى مخالفة الأوامر الإلهية. لذلك ورد في حديثٍ جامع: "التوبة ندمٌ بالقلب، واستغفارٌ باللسان، وتركٌ بالجوارح، وإضمار أن لا يعود"(8).
رابعاً: الإلحاح في طلب المغفرة، وفي التوبة، وفي الاستغفار من الله سبحانه وتعالى. وهناك تأكيدٌ على الإكثار من الاستغفار حتى لو أمضينا أعمارنا كذلك خصوصاً في الأسحار، لأنّ الله مَدح المستغفرين بالأسحار.
وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام في الاستغفار: "الاستغفار يمحو الأوزار"(9)، "عجبتُ لمن يقنط - لمن ييأس - ومعه الاستغفار"(10). "طوبى لمن وُجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كل ذنبٍ أستغفر الله"(11). وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "لكل داءٍ دواء، ودواء الذنوب الاستغفار"(12).
وأختم برواية عن نعمة من نِعَم وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، عن أمير المؤمنين عليه السلام : "كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رُفع أحدهما فدونكم الآخر فتمسّكوا به. أما الأمان الذي رُفع فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما الأمان الباقي فالاستغفار. قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(13) (الأنفال: 33).
(*) من محاضرة رمضانية ألقاها بتاريخ: 2/9/2010.
1.ميزان الحكمة، الري شهري، ج2، 1789.
2.نهج البلاغة، الحكمة (24).
3.بحار الأنوار، المجلسي، ج68، ص376.
4.م.ن، ج91، ص47.
5.مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج12، ص116.
6.من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج4، ص380.
7.وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العاملي، ج15، ص336.
8.عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص20.
9.م.ن، ص33.
10.نهج البلاغة، الحكمة (87).
11.وسائل الشيعة (آل البيت)، م.س، ج16، ص69.
12.م.ن، ص68.
13.نهج البلاغة، الحكمة (88).
مصافحه السيد حسن نصرالله حفظه الله
فضل امين
2015-10-05 01:21:37
الله يبارك دمت لنا يا سيدي