جلال الموسوي
لعلّ أحد أوجه الإعجاز في القرآن الكريم، أنه على مرّ الدهور، بقي زاخراً بالعجائب، مملوءاً بالدرر والجواهر، فيه ما يبهر العقول ويحيّر الألباب، من إشراقات إلهية وفيوضات قدسية ونفحات نورانية، ومما جاء في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله: "ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لا تُطفأ مصابيحه وسراجاً لا يخبو توقّده، وبحراً لا يُدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه وشعاعاً لا يظلم ضوءه". وهذه محاولة متواضعة على ضوء الاقتباس من مصابيح القرآن والاهتداء بسراجه والغرف من لجّته، للإشارة إلى بعض اللفتات اللغوية والنكات البلاغية والبيانية التي اشتملت عليها سورة الفاتحة المباركة: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾ صدق اللَّه العليّ العظيم.
* أولاً: في اللغة:
سُمّيت هذه السورة بالفاتحة لأنها فاتحة الكتاب، أو لافتتاح المصاحف بكتابتها. أما سبب تسميتها بسورة الحمد فلأن كلمة الحمد مذكورة فيها، وتحديداً في بدايتها، كما سُميت أم الكتاب لأنها متقدمة على سائر السور. كذلك الأمر سُميت بالسبع المثاني، فالسبع لأنها تتألف من سبع آيات، والمثاني لأنها تُقرأ في كل صلاة مرّتين، وربما لأنها نزلت مرّتين، واللَّه العالم. أما البسملة وهي عبارة "بسم اللَّه الرحمن الرحيم"، فالاسم فيها مشتق من السموّ، وهو الرفعة، واسم الجلالة "اللَّه" اسم علم للذات المقدسة حصراً، ومعناه المعبود بحق الجامع لصفات الألوهية. وكلمتا الرحمن والرحيم صفتان مشتقّتان من الرحمة، وقد روعي في كلٍّ منهما معنى لم يُراعَ في الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، ووزن فعلان صيغة مبالغة لا يلزم منه الدوام، كغضبان وعطشان، أما الرحيم فبمعنى دائم الرحمة، لأن صيغة فعيل تستعمل في الصفات الدائمة، ككريم وظريف، فكأنه قيل: عظيم الرحمة دائمها.
* ثانياً: البلاغة:
في سورة الفاتحة المباركة أنواع من الفصاحة والبلاغة، منها:
1- حسن الافتتاح وبراعة المطلع، فالسورة ابتدأت بجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى. فقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ بقوّة معنى: قولوا الحمد للَّه.
2- المبالغة في الثناء، فـ(أل) في كلمة (الحمد) تفيد الاستغراق والعموم، أي أن الحمد كلّه هو للَّه عزَّ وجلَّ.
3- الاختصاص في قوله تعالى (للَّه)، أي أن الحمد هو للَّه وحده، وكل حمد دون ذلك مرجعه حقيقة إلى اللَّه سبحانه وتعالى.
4- تلوين الخطاب بالانتقال من الغيبة في قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، إلى المخاطب في قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
5- التقديم والتأخير في قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهذا يفيد الحصر، أي لا نعبد سواك يا ربّ، وهذا ما لا يفيده قول (نعبد إياك ونستعين إياك).
6- التصريح بعد الإبهام؛ فقوله (الصراط المستقيم) أُعطي تعريفاً تفصيلياً لرفع الغموض فقال: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.
7- السجع المتوازي، كما في قوله تعالى (الرحمن الرحيم) و(الصراط المستقيم)؛ وفي قوله أيضاً (نستعين) و(الضالّين)؛ فهذا يعطي للسورة نسقاً خاصاً يسمح بارتياح الأذن لسماعها، ويساعد في خشوع النفس، واللَّه العالم.
* ثالثاً: فوائد:
1- الفرق بين كلمة (اللَّه) وكلمة (الإله): فكلمة (اللَّه) هي اسم علم للذات المقدسة حصراً، وتعني المعبود بحق. أما كلمة (الإله) فتعني المعبود بحق وبغير حق، أي بباطل، لذا تطلق هذه الكلمة على اللَّه عزَّ وجلَّ كما تطلق على غيره. يقول تعالى في سورة طه الآية السابعة والتسعين: "وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرّقنّه ثم لننسفنّه في اليمّ نسفاً".
2- النعمة في هذه السورة، سورة الفاتحة، نُسبت إلى اللَّه سبحانه وتعالى ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، بينما لم يُنسب الضلال إليه، وذلك لتعليم العبد التأدّب بين يدي اللَّه العزيز الحكيم من ناحية، ولأن الضلال هو من سعي الإنسان وكسبه، لا أن اللَّه سبحانه وتعالى يريد لعبده الضلال.
3 - في قوله تعالى:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فإنها وردت بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد. فلم يقل مثلاً: "إِيَّاكَ أعْبُدُ وَإِيَّاكَ أسْتَعِينُ"، وذلك لحث الإنسان على العمل الجماعي، ولإشعاره بأنه جزء من كل هذا المجتمع يعنيه ما يعنيهم، فلا تنحصر اهتماماته بنفسه فقط. وكأن العبد يدعو ربّه ويقول: ضمني يا ربّ إلى سلك الموحّدين من عبادك، واقبل أعمالي في زمرتهم، فنحن جميعاً عبيدك.