* سورة الفاتحة
تحدث الإمام الخامنئي دام ظله عن الصلاة بأنها الرابطة الوثيقة بين الإنسان والرب،
بين المخلوق وخالقه، وآثارها على نفس الإنسان المصلي، ومن اللازم الدخول إلى أفعال
الصلاة لفهم معانيها وإدراك حقيقتها، فكان لا بد من رحلة في أعماق الصلاة كما تحدث
عنها الإمام الخامنئي دام ظله نبتدئها بسورة الفاتحة
*﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
هذه الجملة هي مفتاح جميع السور، مفتاح الصلاة، مفتاح جميع أعمال وحركات الإنسان
المسلم، إنّ بداية جميع الأعمال تتمّ باسم اللَّه فقط. كلّ ما للإنسان، وجميع مظاهر
عيشه وحياته باسم اللَّه. يفتتح المسلم يومه باسم اللَّه وباسمه يختم سعيه في
النهار، وبذكره يذهب إلى فراشه، وبعونه يرفع رأسه منه ليبدأ أعماله اليوميّة من
جديد، وفي نهاية المطاف يودع الحياة باسمه وذكره ويتجه إلى الدار الخالدة.
*﴿
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴾
كلّ حمد وثناء يختص باللَّه، لأن جميع ما هو عظيم منه، والرحمة كلها تصدر عنه، هو
مجمع كل الخصال الحميدة، ومنه تنبع كل الحسنات والإحسانات، فيكون حمده إذن حمداً
للإحسان، وموجهاً لجميع الجهود التي تبذل في طريق الإحسان. على كل من يرى في نفسه
خصلة من الخصال المحمودة أن يعدّها من فيض اللَّه ورحمته وعطفه ولطفه، إذ أنّ
اللَّه هو الذي أودع في فطرة الإنسان بذور الإحسان، وجعل من سجاياه تقبّل الإحسان
والفضيلة، ومنحه القدرة على التصميم، وهو وسيلة أخرى في طريق الخير والإحسان. إنّ
هذه الرؤية تغلق بوجه الإنسان أبواب العجب والغرور، وتحول دون تعطيل الخصال الحميدة،
والقدرات الخيّرة فيه. وفي جملة (ربّ العالمين) نستشعر وجود العالم والعوالم الأخرى
وترابطها، فيحس المصلي أنّ وراء هذا العالم ووراء رؤيته الضيقة، وخلف هذا الطوق
الذي افترضه لحياته توجد عوالم وأفلاك ومجرَّات أخرى، وأنّ ربّه ربّ جميع هذه
الكائنات. إنّ هذا الشعور يميت فيه النظرة الضيّقة، قصيرة المدى، ويمنحه الجرأة
وروح التنقيب والبحث، والإحساس بالغبطة لعبوديّته للّه تعالى، وتبدو له عظمة عبادة
اللَّه وجلالها العجيب. من جهة أخرى يرى جميع الكائنات، البشر والحيوانات والنباتات
والجمادات والسماوات، وعوالم الوجود التي لا تحصى، كلّها مخلوقات للَّه، وأنه هو
مديرها ومدبّرها، ويفهم أنّ ربّه ليس فقط رباً لعرقه أو شعبه أو للإنسانية بأجمعها،
بل هو أيضاً رب تلك النملة الضئيلة وتلك النبتة الضعيفة، ربّ السموات والمجرات
والكواكب، وبإدراكه لهذه الحقيقة يشعر بأنّه ليس وحيداً، ويعلم أنه متصل بجميع
ذرّات العوالم، وجميع الكائنات الدقيقة والكبيرة، وبجميع الناس، وأن الناس إخوته
ومسافرون معه، وأن هذه القافلة العظيمة متجهة بأجمعها نحو هدف واحد. إن هذا
الارتباط والاتصال يجعله يرى نفسه مكلّفاً وملتزماً بالنسبة لجميع الكائنات. مكلّفاً
بهداية جميع الناس ومعونتهم، وبمعرفة بقية الموجودات واستخدامها في الطريق الصحيح
المناسب للهدف من خلقها.
*﴿
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴾
رحمة اللَّه العامة تتخذ شكل قوى خلاقة وقوانين منقذة ومصادر للطاقة منشورة على
رؤوس جميع الكائنات، وكل شخص يحظى بهذه الرحمة إلى أن يحين أجله. وأما رحمته الخاصة،
رحمة هدايته ومعونته، رحمة جزائه وعطفه، فإنّها تشمل العباد الصالحين. هذه الرحمة
في هذه النشأة تبقى خطاً واضحاً على امتداد هذه الموجودات الصالحة والشريفة حتى
الموت وبعد الموت إلى القيامة، وإلى حد المنزل النهائي لوجود الإنسان. إن ذكر صفة
رحمة اللَّه في ديباجة القرآن وفي بداية الصلاة وبداية كل سورة دليل على رأفة
اللَّه وعطفه، وهي أظهر صفة في ساحة الخليقة والوجود، وعلى عكس قهره ونقمته التي
تصيب المعاندين والمفسدين والمجرمين خاصة، فتكون رحمته شاملة وعامّة.
*
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
﴾
يوم الجزاء هو يوم النهاية والمصير والعاقبة، والجميع يسعى من أجل العاقبة، الماديّ
الملحد والعابد للَّه مشتركان في هذا الأمر، كلاهما يبحث عن طريق المصير والعاقبة،
وإنما يختلفان في أنّ كلّ واحد منهما يفهم المصير بشكل مختلف، فعاقبة المادي هي
ساعة أخرى ويوم آخر وسنة أو عدة سنين أخرى، شيخوخة وكهولة وفناء، وأمّا العابد
فنظرته واسعة ورؤيته أبعد من ذلك، وليست الدنيا في نظره مغلقة ومحدودة ومحصورة، بل
الدنيا واسعة والمستقبل غير محدود، وهذا مستلزم لأمل غير مجذوذ، وجهد لا يعرف الملل.
إنّ الذي لا يرى الموت موجباً لانقطاع الرجاء، بل يرى نتيجة عمله وثوابه متوقفة على
الموت، بوسعه أن يستمر حتّى آخر لحظة من حياته بنفس الحماس والتحرك الذي ابتدأ به
العمل والسعي لنيل رضا اللَّه. استذكار أن اللَّه هو المالك، وصاحب القرار والجزاء
في يوم القيامة، هو الذي يوجه المصلي الوجهة الصحيحة، ويضفي على أعماله سمة إلهية.
فتصبح حياته بجميع مظاهرها لأجل اللَّه وفي سبيله، ويبذل جميع جهوده وكلّ شيء عنده
في طريق تكامل البشرية وتساميها، ذلك أنّه الطريق الوحيد لمرضاة اللَّه تعالى. ومن
جهة أخرى: يحرره من الاعتماد على الأفكار الواهية والآمال الكاذبة، ويقوّي فيه
الرجاء الواقعي في العمل. إنّ النُظُم الخاطئة والمنحرفة في هذه الدنيا، قد تمكن
العناصر الضعيفة المنتهزة للفرص أن تحسن أوضاعها عن طريق الخداع والرياء والكذب،
وأن تجني ثمار كدّ الآخرين وكدحهم، ولكن في عالم الآخرة حيث يكون اللَّه العالم
العادل مالكاً زمام الأمور جميعها، وحيث لا يمكن الخداع والكذب والرياء فسوف لا
يحصل أحد على شيء دون عمل. إلى هنا ينتهي الحديث عن النصف الأول من سورة الحمد
المتضمن لحمد خالق العالمين، وذكر أهم صفاته، أما النصف الثاني المشتمل على إظهار
العبودية وطلب الهداية، فإنه يشير بوضوح إلى جزء من أهم الخطوط الأساسية
لأيديولوجية الإسلام.
*
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ
﴾
أي أنّ وجودنا بأجمعه وجميع قدراتنا الجسدية والروحية والفكرية هي بيد اللَّه وهي
خاضعة له ولأجله. إنّ المصلي بتلفظه بهذه الجملة يحطم قيود عبودية غير اللَّه عن
يديه ورجليه ورقبته، ويجيب داعي اللَّه ويرفض مدّعيي الألوهية الذين كانوا على مرّ
التاريخ السبب في جعل شريحة كبرى من البشر مقيدين بأغلال العبودية والاستضعاف
والأسر، ويقرب نفسه وجميع المؤمنين باللَّه أكثر إلى طاعة اللَّه والانصياع لأوامره.
والخلاصة إنه بقبوله العبودية للَّه يتحرر من جميع العبوديات الأخرى وبذلك يدخل
نفسه في سلك الموحدين الحقيقيين. إنّ الاعتراف بأنّ العبودية منحصرة باللَّه فقط هو
أحد أهم الأصول الفكرية والعملية في الإسلام وفي جميع الأديان السماوية، والذي
يعبّر عنه ب«إنحصار الألوهية باللَّه»، أي أنّ اللَّه فقط هو الذي ينبغي أن يكون
معبوداً، وأن لا يعبد أحد سوى اللَّه. لقد كان هناك دوماً من لا يفهمون هذه الحقيقة
بشكل صحيح، فكانوا يستنتجون منها أموراً خاطئة ومحدودة، ولذا وقعوا غافلين في
عبودية غير اللَّه. فقد ظنّوا أنّ عبادة اللَّه تكون فقط بتقديسه ومناجاته، وبما أنّ
هؤلاء كانوا يصلّون للَّه ويناجونه فقط، فكانوا على يقين كامل من أنهم لم يعبدوا
سوى اللَّه. إن الإطلاع الواعي على المعاني الواسعة للعبودية في مصطلح القرآن
والحديث يوضح هذا التصور. فالعبادة في اصطلاح القرآن والحديث عبارة عن الطاعة
والتسليم والانقياد المطلق للأمر والقانون والنظام الذي يوجَّه للإنسان من أي مقام
أو قدرة، سواء كان هذا الانقياد وهذه الطاعة مع التقديس والمناجاة أم من دونهما.
وعلى هذا فكلّ الذين ينصاعون للنظم والقوانين والأوامر الصادرة من أية قدرة غير
اللَّه تعالى، هم عباد تلك الأنظمة والموجدين لها. ولو تركوا بعضاً من شريعة اللَّه،
وعملوا ببعضها الآخر في حياتهم الفردية والجماعية فإنّهم مشركون يتخذون مع اللَّه
إلهاً آخر. وأما من لا يعمل البتة بقانون اللَّه سبحانه، فإنّه سيكون كافراً
متجاهلاً الحقيقة الواضحة والساطعة لوجود اللَّه، منكراً إياها اعتقاداً أو عملاً.
بالاطلاع على هذه الرؤية الإسلامية يمكن الوقوف بسهولة على أنّ الأديان السماوية
التي كان أوّل شعار ترفعه كلمة لا إله إلاّ اللَّه ماذا كانت تقول؟ وماذا كانت تريد؟
ومن كانت تواجه؟ إنّ هذه الحقيقة (حقيقة معنى العبادة) في المصادر الإسلامية (القرآن
والحديث) من التواتر بمكان بحيث لا يبقى معه أيّ شك أو ترديد لدى المتدبرين
والعلماء. ولأجل المثال نكتفي بذكر آية من القرآن الكريم، وحديث عن الإمام الصادق
عليه السلام. قال تعالى:
﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
﴾. وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى
اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى﴾.
قال عليه السلام: "أنتم هم ومن أطاع جبّاراً فقد عبده".
*
﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
﴾
لا تنتظر من منافسيك ومن مدّعيي الألوهية أيّ مساعدة أو معونة. ذلك أنّ السبب الذي
دعا هؤلاء لرفض ألوهية اللَّه يجعلهم لا يساعدون عباده السائرين على صراطه. إنّ
طريق اللَّه هو طريق أنبيائه، طريق الحق والعدل والتآخي والاتصال والتعايش بين جميع
أفراد البشر، وإعطاء الإنسان قيمته، ورفض التعصب والظلم والتمايز، وأمّا أنداد
اللَّه ومدّعو الربوبية فقد وضعوا جميع مخططاتهم في حياتهم الدنيئة وما سرقوه من
ثروات لأجل تدمير القيم الأصيلة، فكيف يمكن أن يمدّوا يد العون والمساعدة لعباد
اللَّه؟ إنّ هؤلاء في حرب لا هوادة فيها ضد عباد اللَّه. فإذن نطلب العون من اللَّه
فقط. من قوّة الذكاء والإرادة التي أودعها فينا. من الأسباب والوسائل التي وضعت
بأيدينا. من السنن والقوانين الطبيعية والتاريخية التي لو عُرفت لأمكن أن تشق
الطريق للعلم والعمل. ومن جميع ثمار قدرته التي تعدّ من جيوشه المقتدرة الموضوعة في
خدمة البشر.
*﴿
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
﴾
لو كان الإنسان محتاجاً إلى شيء أهم وأولى من الهداية، فلا شك أن هذا كان سيذكر في
سورة الحمد وهي ديباجة القرآن والقسم المهم في الصلاة بلسان الدعاء والطلب من
اللَّه. فبالهداية الإلهية يقع العقل والتجربة في الطريق الصحيح والمفيد والمنجي،
ودون ذلك يغدو هذا العقل والتجربة مصباحاً في يد قاطع الطريق أو شفرة بيد المجنون.
الصراط المستقيم، هو ذلك البرنامج الفطري الذي وضع على أساس التقدير الصحيح
لاحتياجات الإنسان الطبيعية وإمكاناته وقدراته، الطريق الذي مهده أنبياء اللَّه
للناس. وكانوا هم أوائل الساعين والسالكين فيه، الطريق الذي إن استقر الناس فيه
يكون مثلهم كالماء الذي يجري مستقيماً في مجراه ويتجه ذاتياً ودون استعانة بقوَّة
أو قدرة نحو هدفه النهائي. ألا وهو بحر التسامي الإنساني اللامتناهي. وهو برنامج لو
اتخذ قالباً للنظام الاجتماعي وطبّق في حياة البشر لجلب لهم بالتأكيد الرفاه
والاستقرار والحرية والتعاون والتكافل والإخاء. ولوضع حداً لجميع المآسي البشرية
المزمنة. ولكن ما هو هذا البرنامج وهذا الطريق؟ الكلّ مدّعٍ في هذا السوق المزدحم،
ويرى كل فريق غيره على خطأ، فيجب أن تحدَّد الإشارة المناسبة لهذه الديباجة القصيرة
للصراط المستقيم من وجهة نظر القرآن، لذا تستمر السورة بهذا النحو:
*
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
﴾
من هم أولئك الذين شملتهم نعمة اللَّه وحصلوا عليها؟ لا شك في أنه ليس المراد من
النعمة المال والجاه والعشرة المادية، إذ أنّ أبرز أمثلة الحاصلين عليها هم دائماً
من ألدّ أعداء اللَّه وخلقه. بل المراد بها نعمة أكبر من هذه الزخارف، إنّها نعمة
اللطف والعناية وهداية اللَّه، نعمة معرفة القيمة الواقعية للنفس واستعادة الذات.
وفي موضع آخر عرّف القرآن الكريم الحاصلين على هذه النعمة:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ﴾.
فإذن يطلب المصلي في هذه الجملة من اللَّه أن يهديه إلى صراط الأنبياء والصديقين
والشهداء والصالحين، وهذا خطّ واضح على طول التاريخ، وطريق ظاهر وهدف معين وسالكون
معروفون. وفي مقابله خطّ آخر، وهو واضح أيضاً، وله أتباع مشخَّصون، وبذكر ذلك
الطريق وسالكيه يهيب المصلي بنفسه ويحذّرها أن تطأ ذلك الطريق أو أن تنحرف نحوه،
وهذا ما يبيّنه في تتمة الدعاء السابق بهذا الشكل.
*
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
﴾
من هم الذين غضب اللَّه عليهم؟ هم الذين وضعوا أقدامهم في الطريق الآخر المخالف
لطريق اللَّه وجرّوا الكثير من الناس الآخرين الغافلين من فاقدي الإرادة والضعفاء
أو الواعين والمريدين ولكنّهم أجبروهم وساقوهم على السير في هذا الطريق. إنّ الذين
أمسكوا على طول التاريخ بزمام أمور الناس عن طريق القهر والجبروت والخداع والنفاق،
وصنعوا منهم كائنات مجبرة وآلات تابعة (مستضعفة)، الذين أعدّوا وفسحوا المجال
للرذيلة والعلاقات المنحطة عن طريق استغفال الناس والتسلط عليهم. بعبارة أخرى: إنّ
الأشخاص الذين صاروا مورداً لغضب اللَّه هم الذين سلكوا طريق الضلال، لا عن جهل
وغفلة بل عناداً، وبسبب الأنانية وحبّ الذات. في الواقع التاريخي كانت هذه المجموعة
تتشكل من الطبقات العليا والمقتدرة، التي كانت دائماً مستهدفة من قبل الفصائل
الدينية، وكانت أهداف الدين ترسم خطّ بطلان فلسفة وجودهم، وكانت أول خطوة تخطوها
تلك الفصائل هي خطوة الاعتراض عليهم. وغير هاتين المجموعتين: مجموعة المهديين
ومجموعة المغضوب عليهم، هناك أيضاً مجموعة ثالثة ينتهي بها الطريق إلى نفس ما ينتهي
إليه المغضوب عليهم، الجملة التالية تشير إلى هذه المجموعة من الناس.
*
﴿وَلَا الضَّالِّينَ ﴾
الذين سلكوا عن جهل وغفلة، إتباعاً لأسيادهم المضلين، طريقاً غير طريق اللَّه
والحقيقة، في حين أنّهم كانوا يظنون أنّهم سائرون في الطريق الصحيح، مع أنّهم يخطون
في طريق خطر، ويتجهون إلى نهاية مرَّة. هذه المجموعة أيضاً يمكن مشاهدتها في
التاريخ بوضوح، إنهم كل الذين كانوا يمتثلون أوامر أسيادهم في النظم الجاهلية،
ويطيعونهم إطاعة عمياء، وكانوا من أجلهم يخطّئون الذين ينادون بالحق والعدل ويهتفون
بدين اللَّه، وحتى أنّهم يقفون بوجههم أحياناً، ثمّ لا يسمحون لأنفسهم ولو لحظة
واحدة بإعادة النظر بهذا الطريق الذي سلكوه عن جهل. ونحن نسمي هذا الأمر جهلاً لأنه
يحقق مصالح الطبقات المستكبرة، ويدمّر هؤلاء الضالين أنفسهم، وعلى العكس فإنّ دعوة
الرسل تستأصل شأفة الفئة المغضوب عليها وتعمل طبعاً لأجل الطبقات المحرومة
والمستضعفة، ومن ضمنها هؤلاء المغفلون. إنّ المصلي باستذكاره الحالتين حالة (المغضوب
عليهم) وحالة (الضالين) تنشأ لديه حالة الحساسية والدقة في تحديد الطريق الذي ينبغي
أن يسلكه، والموقف الذي يجب اتخاذه تجاه الصلاة المنقذة التي يدعو إليها الأنبياء،
وعندها إذا رأى في سلوكه في الحياة علاقة تدلّ على الرشد والعثور على الطريق، يلهج
ثانية شاكراً هذه النعمة الكبيرة قائلاً: الحمد للَّه رب العالمين. وبذلك ينهي جزءاً
مهماً في الصلاة. كانت هذه بداية القرآن التي تلاها (فاتحة الكتاب). ديباجة القرآن
كديباجة كل كتاب تعطي صورة عامة لمجموع معارف الكتاب، فكما أنّ الصلاة خلاصة وصورة
مصغرة للإسلام، أشير فيها إلى الكثير من الجوانب والنقاط البارزة لأيديولوجية
الإسلام، فإن سورة الفاتحة أيضاً هي فهرسة للنقاط البارزة والخطوط العريضة للمعارف
القرآنية والمشتملة على خلاصة التوجيهات المهمة فيه، ولهذا:
فإنّ العالمين والعالم شيء واحد متصل أنشأه الإله رب العالمين كل شيء وكل شخص
واقع تحت رحمة اللَّه وعطفه، وأمّا المؤمنون فلهم رحمة ولطف خاص منه: الرحمن الرحيم.
إنّ حياة الإنسان مستمرة بعد هذا العالم، وإن الحاكمية المطلقة هناك للَّه: مالك
يوم الدين، على الإنسان أن يتحرر من عبودية غير اللَّه، وأن يحيا تحت ظل رعاية
اللَّه، بالخصائص الإنسانية وفي طريق الإنسانية، حراً مختاراً: إياك نعبد وإياك
نستعين. عليه أن يلتمس طريق السعادة والصراط المستقيم في حياته من اللَّه: إهدنا
الصراط المستقيم، عليه أن يشخّص جهة الأعداء والأصدقاء، وأن يتعرف على أفكارهم
واستراتيجيتهم ليحدد موقفه من كلتا الجبهتين بما يمليه عليه إيمانه: صراط الذين
أنعمت عليهم.