نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

أحمد قصير.. يوم بزغ فجر الاستشهاد بين زخات الدماء

نسرين إدريس‏

 



وأطبقت صور جفنيها في تلك الليلة على وجعٍ مرير.. القيد يشدّ معصميها، وزبد البحر المالح يرمي بشباكه فوق قلبها الحامل بأمة من قهرٍ.. وصور عروس ممزقة النقاب تنظرُ إلى قواربها الشاردة دون صيادين، وصواري سفن أحلامها المكسورة، والأفق همس انتظار عنيد.. تلك الليلة؛ كان الليلُ غابات من مطر، والصمتُ يزخر بالرعود والبروق، وعينا شابٍ لامعتين بشهبٍ من لُجين آتياً من وشاح الضباب الصباحي، لتلدَ صور زمناً جديداً نبتَ بين زخات المطرِ وحبات دماء أحمد قصير؛ إنه عصر جديد؛ "عصر الاستشهاد الذي افتتحه الشهيد احمد وسيستمر بعزم المجاهدين وإرادة الاستشهاديين حتى تحقيق الأهداف.." (سماحة السيد حسن نصر اللَّه).

* أحمد في دروب الحياة الصعبة:
ترك أحمد، وهو من مواليد العام 1963، المدرسة باكراً ليعين والده على إعالة إخوته، فعمل منذ الصغر وعرف الحياة دروباً صعبة لا يسلكها إلا واثقو الخطى. ولكنه لم يُغرق نفسه بتفاصيل العمل، بل وازى بين واجبه تجاه أسرته، وواجبه تجاه الإنسان الذي بداخله، فسعى إلى تربية نفسه وتهذيبها بالمبادئ المحمدية الحسينية، فهاجرت روحه الدنيا في محراب مسجد قريته دير قانون النهر، ليلمسَ بنظراته حدود الحقيقة.. كان المسجد مدرسته، والقرآن كتابه، فيبقى تالياً لآياته حتى إذا ما انتصف الليل، جدّ في الدروب الخالية إلا من نسائم الرحمة الإلهية التي لفحت وجهه فملأت قلبه إخلاصاً ويقيناً ومعرفة.. في أواخر السبعينات بدأ الإخوة المؤمنون بتشكيل لجان للعمل الإسلامي، فبادر أحمد إلى مساعدتهم، وتمّ تشكيل كشافة التربية، فكان يعمل بتفانٍ غريب، فهمه الوحيد هو جعل الدين دستوراً للأجيال، الدين الذي من أجله رُفع رأس الإمام الحسين عليه السلام عالياً، وبقي صوته ينزف على مرّ التاريخ: "إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم..". اضطر أحمد للسفر إلى السعودية للعمل عام 1982، ولكن ما إن سمع باجتياح العدو الإسرائيلي للبنان حتى حزم حقائب الرجوع، تاركاً كل شي‏ء، ليستقر في قريته، بين أهله، وبين الدبابات الإسرائيلية التي رآها تجوب الطرقات التي حملته صبياً، وغرّدت أمانيه شاباً، وقد صارت كبيتٍ للعنكبوت؛ "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت..". لقد وصل يومها بصعوبة إلى منزله، إذ احتجزه أحد حواجز القوات الإسرائيلية للتحقيق معه يوماً كاملاً..

* أول الغيث:
لم يستطع للحظة واحدة قمع الروح الثورية المتأججة بداخله وضبط حماسته الشجاعة، فيسخر من تلك الأرتال المدججة بالسلاح، ويرمقها بنظراته الحاقدة، ويهزأ من هالة القوة الاسطورية التي نعتوا أنفسهم بها. فكانت ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر التي أقيمت في منطقة النبطية، فرصة لأحمد ليعطي للناس أول دروس الشجاعة، فعند عودته من النبطية إلى دير قانون النهر بشاحنته الصغيرة، أزال كل اللافتات التي تحمل اسم القرى باللغة العبرية التي زرعها العدو الصهيوني غير آبهٍ بالخطر المحدق بهذا العمل، ليس استهتاراً منه بما يمكن أن يحصل، بل تسجيلاً لموقفٍ ذكي في وقت كانت الذهنية العامة غارقة بظلام الانهزام. لقد عرف أحمد منذ تلك اللحظة أن الذكاء في الحرب يكمن في التفاصيل الصغيرة، ومنها انطلق إلى العناوين الكبيرة.. في كل يوم، يمر احمد بشاحنته الصغيرة التي ينقل فيها الخضار للمحل الذي افتتحه والده له، من أمام مقر الحاكم العسكري في جل البحر صور. وينظر في تلك اللحظة العابرة بتمعن إلى كل ما يجري، حفظ المشهد حتى صار جزءًا لا يتجزأ من يومياته؛ الجنود، الشاحنات العسكرية، الخيم، المعتقلون.. نظرة واحدة تحز القلب بسكين فوق وجع عميق، والصمتُ لغة الحيرة في نفسه التي باتت تتقلبُ على جمرات القلق في ليلٍ بهيم.. أحد لم يعرف أن تحت الخضار الطازجة التي كان ينقلها أحمد، تمكث بهدوء ذخائر وأسلحة كان ينقلها للإخوة المجاهدين من بيروت إلى الجنوب، فكان يعبر الحواجز بهدوء وسكينة، ودون أن يلفت الأنظار إليه، وما زاد في إعجاب الإخوة في قيادة المقاومة الإسلامية أنه على الرغم من عدم قدرته على ضبط انفعالاته الثورية، إلا أنه استطاع أن يقنع المقربين من أهل وأصدقاء وجيران، أنه لا يهتم بشي‏ء سوى بعمله وإخوته الذين تركهم والده أمانةً في رقبته وسافر ليعمل في بلاد الاغتراب..

وأسر أحمد ذات ليلة حالمة لرفيق عمره الشهيد رضا حريري بحلمٍ صباحي يراوده كلما مرّ في صور، وراح يخبره عن تفاصيل عملية استشهادية تهز الكيان الإسرائيلي الغاصب بلهفةِ شاب يصفُ أميرةً مرّت بخاطره فأيقظتْ قلباً بين ركام اليأس.. وصف مقر الحاكم العسكري في صور بدقة، وكانت أنامله ترسم على الهواء لوحات التوقيت الزمني لجميع تحركاتهم؛ فهذا المقر يضم في طبقاته الثمانية مكاتب المخابرات، ووحدة المساعدات اللوجستية، ومقراً لعدد كبير من الضباط والجنود، كما تتوزع حول المبنى خيم للجنود. إنها ضربة للجيش الإسرائيلي تؤكد أن ما حصل على مثلث خلدة ليس موقفاً بطولياً للتاريخ فحسب، بل عقيدة مستعدون لتنفيذها في أي زمان ومكان.. فطلب إليه رضا أن لا يحدّث أحداً بهذا الموضوع على أن ينقل للإخوة في قيادة المقاومة هذا الأمر.. وذات يومٍ من أيلول، حزّت السكين الإسرائيلية المجرمة وريد الحياة لعدد كبير من الآمنين في مجزرة هزّت وجدان العالم في مخيم صبرا وشاتيلا في بيروت.. لم يستطع أحمد أن يذرف دمعة واحدة، لأن الحزن الذي نبتَ في حلقه خنق عبرته، وحده قلبه الذي حدّثه بشي‏ء مجهول شدّ به على الوجع..

* البسمة بطاقة عبوره للاستشهاد:
وكان اللقاء الموعود، جاء أحد الإخوة من قيادة المقاومة ليلتقي بأحمد؛ فرآه شاباً هادئاً لا تفارق الابتسامة وجهه، واثقاً من نفسه، يَظهر من حديثه مدى طيبته وطهارة نفسه، ولكن كل ما عرفه الأخ عن أحمد، وكل ما لامسه بحدسه، لم يمنعه من أن يوجس خيفة. وبدأ إخضاعه للعديد من الامتحانات النفسية، فما إن يخبره عن موعد العملية حتى يؤجلها، ولم يكن من السهل التأثير على أعصاب أحمد، أو إقناعه بلغة المنطق بالتخلي عن هذه الفكرة لحاجة أهله له، ولمسؤوليته عن إخوته، على أن يتابع العمل العسكري كما كان يفعل ورضا حريري وبعض الإخوة؛ نصب كمينٍ لدورية، أو عملية عسكرية، لكن ردّ أحمد الوحيد كان ابتسامة عريضة وهو يلوي رأسه ببطءٍ قبل أن يسافر بصره صوب السماء. وأخيراً تمت الموافقة على مقترح أحمد قصير بتنفيذ أول عملية استشهادية للمقاومة الإسلامية.. لم يكن لدى المقاومة الإسلامية متفجرات، فطفقوا يجمعون القذائف الإسرائيلية التي لم تنفجر لتفخيخ السيارة. وهيأ أحمد ظروف اختفائه حسب ما قيل له، فأخبر أهله أنه ذاهب إلى بيروت ليجلب بعض الأغراض من رفيقه الآتي من السعودية، واختفاؤه في تلك الحقبة سيعني حتماً تعرضه للاختطاف على أحد الحواجز، وبالتالي سيُدرج اسمه في لائحة طويلة للمفقودين.. بقي أحمد خمسة عشر يوماً وحيداً في أحد المنازل البعيدة. كان البردُ قارساً، والشتاء المفاجئ يغتال هدوء المكان الغارق بالعتمة لعدم وجود تيار كهربائي، وكلما زاره أحد من الإخوة وجده إما تالياً للقرآن أو ساجداً..

وبدأ الأخ الذي تعرف عليه يدربه على قيادة السيارة بتوقيت محدد، وخلال فترة التدريب كان أحمد ملتزماً بأدق التفاصيل. كان يعرف أنه سيقود سيارة محملة بالمتفجرات، وضحكته لم تفارق وجهه، وأغدق على المواقف الجدية المرح والمزاح اللطيف. كان الأمل يحدوه، والرجاء في أن يوفقه الله لعمله صلاةً دائمة في سكوته الرابض بين يديه الممسكتين بمقود السيارة.. أمام ذلك كله، كان الأخ يسأل نفسه وهو ينظر إلى ذلك الشاب العشريني الذي يعيش لحظات عجيبة من السعادة العارمة: هل يمكن أن يتراجع في اللحظة الأخيرة؟ كل الذي استطاع أن يفعله الأخ تجاه هذا القلق هو النظر إلى عيني أحمد وبسمته فيهدأ روعه.. وكان الموعد المحدد للعملية بتاريخ 10-11-1982، غير أن طارئاً أجّل العملية لليوم الثاني.

* فجر بين زخّات الدماء:
لم تكن تلك الليلة ليلةً عادية.. المطرُ الغزير.. وخلف نافذة الصقيع أنامل تزيحُ الغشاوة برفق تنظر إلى الصبح.. أليس الصبح بقريب؟!.. ولاح فجرُ الخميس 11-11-1982 بين عيني أحمد، وهو يقود سيارة بيجو مفخخة بكميات كبيرة من المتفجرات، متوجهاً صوب مقر الحاكم العسكري، وقبل وصوله بمسافات تعطلت مكابح السيارة فقادها ببراعة، وما إن وصل في الوقت المحدد إلى المقر حتى ارتفع الحاجز بموعده المحدد للتبديل، فأسرع أحمد بسيارته صوب المبنى، وكان المطر الغزير قد دفع بالجنود لترك الخيم والاختباء داخل المبنى ما ساعد في رفع حصيلة القتلى والجرحى.. ارتفعت سحابةُ الدخان من النيران المشتعلة؛ 76 قتيلاً صهيونيًا حسب مصادر المقاومة ومصادر العدو، وصرح العدو الإسرائيلي عن 28 جريحاً، فيما تؤكد المقاومة وقوع 108 جرحى.. واستيقظتْ والدة أحمد على صوت الانفجار ولهى، وهي تضغطُ على قلبها بيديها اللتين ربّتا ذلك الفارس الحسيني.. كان والدا أحمد قد بحثا عنه في كل مكان، وانتظراه طويلاً، وكلما تحدث أحد عن البطل الذي قام بأول عملية استشهادية تمتمت شفاه أمه: (اللَّه يصبّر قلب أمه).. آنذاك صرح الكنيست الإسرائيلي: (نطالب بالانسحاب السريع من لبنان لتجنب المزيد من الخسائر في جيش الدفاع).. ونشرت صحيفة هآرتس: (اجتياح لبنان أخفق في تحقيق أهدافه) .. لم يعرف قادة العدو ماذا يفعلون وبماذا يبررون، فقد زلزل الانفجار الذي حصل قواعد المستوطنين في فلسطين المحتلة، وعلى الرغمِ من أن حملات الاعتقال شملت أكثر من 500 مواطن زُجَّ بهم في المعتقلات، إلا أن تصاعد العمليات الاستشهادية الدقيقة والمدروسة أدى بعد عملية الشهيد عامر كلاكش (أبو زينب) إلى تراخي القبضة الحديدية وإنشاء ما سُمي بالشريط الحدودي..

قد يكون من السهل مشاركة المرء في الدفاع عن وطنه في ظروف ردة الفعل النابعة من القناعة التامة بعمله، ولكن من الصعوبة أن يبادر المرء إلى فعلٍ هدفه يعني انتهاء حياته (الدنيوية)، إنها حالة الاستشهاد كما يعبر سماحة السيد حسن نصر اللَّه: (إن الحركة التي تملك بين أفرادها استشهاديين، إنما تملك رجالاً يحملون روحية عالية مع معرفة ووعي عظيم وشوق كبير وإرادة وعزم لا مثيل لهم... عندما ترقى العملية إلى مستوى العمل الاستشهادي فهذا يعني أن في هذه المقاومة روحاً وعزماً لا يمكن النيل منه بسهولة في كل الحالات..).

لقد أجاب أحمد على تساؤل الأخ الذي درّبه بعزيمته وإيمانه.. أحمد الذي كان شاهداً على عصر الانهزام، ومبشراً بزمن الرفض والانتصار، ونذيراً بنهاية إسرائيل من الوجود .. وبدوره أجاب الأخ على سؤال بقي أحمد يسأله طوال فترة تدريبه؛ "ماذا سيكون مصير المقاومة الإسلامية بعد شهادته؟"، فعندما فجّر أحمد قصير نفسه كان يحمل خوفاً واحداً هو على نهج مسيرة المقاومة.. في أيار عام 2000، وفيما كان العدو الصهيوني يندحرُ مهزومًا من الأراضي اللبنانية، كان الأخُ يُخفي في فرحته صدى سؤال أحمد له؛ وبعد ثمانية عشر عاماً، كان جوابه الوحيد الذي لم يملك غيره لشخصٍ مثل أحمد؛ ابتسامة عريضة وهو يلوي رأسه ببطء قبل أن يسافر بصره بين الأعلام الصفراء المرفرفة عالياً معانقة السماء..

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع