محمد مهدي كوراني
إن الإسلام هو الحقيقة الكاملة والمطلقة "الدين عند اللَّه الإسلام" بل أيضاً هو خاتمة الأديان والرسالات السماوية وهذا لا يعني فقط إن الشريعة الإسلامية حجة على عقول البشر كافة بل أكثر من ذلك وهو أن المعرفة البشرية عن الإسلام أيضاً حجة على عقول البشر لأن الإنسان أصبح قادراً على أن يحافظ على الوحي ولا يحتاج لوحي جديد مع أن المعرفة البشرية تتكامل وتتزايد مع مرور الوقت لتصحح ما أخطأه الإنسان فيما سبق وتكمل جهله فيما لحق. إذاً المعرفة البشرية عن الإسلام تتضمن نقصاً وخطأ مما يستلزم تجدداً وإصلاحاً متكاملين، بخلاف الشريعة الإسلامية فإنها كاملة متكاملة، لكن السؤال هنا أن المعرفة البشرية الناقصة والمتضمنة للأخطاء كيف لها أن تكون حجة على عقول البشرية في زماننا هذا، خاصة مع ابتعادنا المتزايد عن زمن منابع الشريعة الأصيلة؟ والجواب يكمن بأن المعرفة البشرية عن الإسلام مع كل الأخطاء والنواقص هي في المجموع تدلنا ليس على الحقيقة المطلقة بل على الطريق الذي يؤدي إليها ولهذا فإن المعرفة البشرية في أي زمان حجة على عقول البشر بمعنى أن العقل يستطيع استيعابها فيكون مسؤولاً أمام اللَّه.
فبإمكان العقل أن يصل إلى الحقيقة المطلقة من خلال الآراء المتنوعة والمتعددة والمتضاربة الموجودة في المعرفة البشرية (المعرفة لا تشمل رأي غير المسلمين وغير المتخصصين عن الإسلام) مع أن كلاً من هذه الآراء لا يشمل مطلق الحقيقة، لكن تبقى كلها ضرورية للإصلاح والتجدد. فعملية الإصلاح والتجدد حسب السنن الإلهية، ليست عملاً فردياً أو حزبياً أو عمل تيار وحكومة بل عملية الإصلاح والتجدد في هذا التوازن للآراء المتضاربة هي انتقال من توازن إلى توازن آخر في المعرفة البشرية ومن خلال هذا التوازن الجديد تصبح المعرفة البشرية حجة على كل العقول في تلك الحقبة وهذا يعني أن العقل يستطيع أن يصل في هذا الإطار إلى الحقيقة المطلقة، لكن ما هو العقل هنا؟ هل يشمل المضطرب عقلياً الذي يحاول إقناعك بتحليلات عقلية، ما رآه حقيقة بأم عينه بأن القمر دخل ليلاً غرفته وتنزها معاً في السماء! فهل جميع العقول تستطيع بالفعل وبالقوة أن تكتشف الحقيقة؟ فالعقل من جهة حجة اللَّه على البشر لكن من جهة أخرى، "دين اللَّه لا يصاب بالعقول" فهناك عدة نظريات لحل مشكلة العقل ليس فقط في الإسلام بل في كل الديانات السماوية.
هذه النظريات تنقسم إلى نوعين: الأول يتبنى فكرة تنوع العقول مثل نظرية العقل الديني والعقل المتمسك بالوحي والنوع الثاني يتبنى فكرة تجزئة العقول البشرية كما يجزئ فرويد النفس الإنسانية إلى ثلاثة أجزاء مثل نظرية النفس اللوامة، لكن هناك نظرية أخرى تسمى "العقل الغيبي" ولا تعتمد على تنوع العقول ولا تجزئتها بل تعتمد على تربية العقل على احترام مقدماته التي وصل إليها في مرحلة سابقة لتساعده على تجاوز المرحلة اللاحقة. فالحجاب قد يبدو ظلماً للإنسان عند البعض إلا أن تفهم العقل مقدمة أن الدين في نهايته عدل لا محال، يقرب الإنسان أكثر إلى إصابة المصالح الحقيقية لحياته ولا يتم ذلك إلا من خلال تربية العقل على احترام الثوابت القبلية التي يكتشفها هو ويحدد من خلالها دائرته وساحته. من أهم النتائج العقلية التي يجب على العقل ليس فقط أن يصدقها بل عليه أن يعيشها، هي أن عقل الإنسان محكوم بجهل نسبي وجهل مطلق فيجب عليه الاعتماد على الوحي ليس كما يعتمد الأعمى على العصا بل كما يحنّ الطفل لأمه، والعقل والوحي هما جناحان، لا غنى عن أحدهما وهذا هو الإيمان بالغيب الذي يتربى عليه العقل الغيبي، فكما أن لكل عضو وجارحة عبادة فعقل الإنسان أيضاً يجب عليه أن يمارس العبودية للَّه، فالنداءات التحرّرية التي ينادي بها بعض المثقفين العلمانيين وأخضع نفسه لقواه الفطرية وكشف عن نفسه غبار الشك والشبهة، ليست إلا اتجاهاً معاكساً لهذه التربية العقلية إلا إذا حيث لا يمكن أن نتوقع من هذا العقل أن يستوعب الحرية الموجودة في عبودية اللَّه.