مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الحضارة بين تأصيل المفهوم ومواكبة الحركة


موسى حسين صفوان


كلمة "حضارة" في اللغة العربية، مشتقة من اللفظ "حَضَرَ"، فيقال: "حَضَر حُضوراً وحضارة"، ضد غاب، وحضر حضوراً المجلس، شهده... و"حضر حضارةً" الوقت، أي حان. يقال مثلاً، حضرت الصلاة، أي جاء وقتها... و"حَضَر حضارةً" أقام في الحضر، وهي القرى والأرياف والمنازل المسكونة، فهي خلاف البدو والبداوة. والحضارة تعني الحضر، والحِضارة بالكسر تعني الإقامة في الحضر والحاضرة هي المدينة الكبيرة، يقال مثلاً، حاضرة الفاتيكان... (المنجد للغة) ويمكن أن نفهم من لفظ "الحضارة" من حيث المعنى اللغوي عدّة معانٍ منها الحضور الذي يقابله الغياب؛ وحلول الوقت؛ والسكن في المدن والقرى، الذي يستدعي الإقامة والحضور الدائم في مكان ما، بخلاف حال البداوة التي تلازمها كثرة الترحال، والانتقال من مكان إلى آخر، ومن هنا يعتبر "ويل ديورانت" بداية الحضارة منذ تأسيس المجتمع الزراعي.

ومن هنا أيضاً يطلق لفظ "الحضارة" على معنى التمدن، وهذه المعاني الثلاثة مجتمعة تكون مفهوم الحضارة في الثقافة العربية، وكذلك الحال في الثقافة الأجنبية فهم يستخدمون مصطلح civilization الذي يعني التمدن. ولكن الأمور ليست بهذه البساطة، فهناك العشرات من التعريفات للفظ "الحضارة" لدى المفكرين الغربيين والشرقيين على السواء، بحيث يصعب الوقوع على معنى دقيق متفق عليه يحدد مفهوم الحضارة، ويفصلها عن الثقافة من جهة، وعن حركة عناصر التمدن، مثل التطور الصناعي، وتطور الأساليب الإدارية والنظم والقوانين والتدابير الإجرائية. وهناك تعريفات مفصلة لتناسب بعض المشاريع السياسية، كما هي الحال في تعريف "صاموئيل هانتنغتون" صاحب نظرية صدام الحضارات، والذي يروج للهيمنة الغربية على النمط الأميركي، حيث يعتبر أن الحضارة "أسمى تبويب ثقافي، وأوسع هوية ثقافية" ففي العبارة الأولى، نلاحظ التركيز على الشكل وتجاهل المضمون، وهذا يتلاءم مع طبيعة الحضارة الأميركية الفارغة من المضمون والمتمحورة على الأدوات والوسائل، وفي العبارة الثانية يتحدث عن أوسع هوية ثقافية ويقصد فيها الامتداد الجغرافي والديموغرافي وهي طبعاً حسب زعمه الديمقراطية الغربية بوجوهها وأشكالها كافة ويتجاهل الهويات الحضارية والثقافية الأخرى، بل ويضعها من جملة أهداف الصدام الذي ينظر له.

أما "هنري لوكاس" في كتابه تاريخ الحضارة، فهو يعتقد أن الحضارة ظاهرة محبكة تستوعب جميع الأحداث الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية، وحتى الفن والأدب. وهذا الكلام وإن كان صحيحاً إلا أنه لا يسمن ولا يغني من جوع، فما زلنا بحاجة لتعرف مفهوم تلك الظاهرة، والعوامل التي تشترك في تكوينها، وليس فقط مجالات تأثيرها التي يشير إليها... وكذلك الحال بالنسبة لتعريف "الفرد وبر" الذي يقول أن الحضارة هي من نتاج التكنولوجيا، وهذا يشبه ما يقوله ويل ديورانت من أن الثقافة تنتج المجتمع الزراعي الذي هو الصورة الأولى للحضارة وعلى كل حال فإن هذا التعريف هو أيضاً يتناول الحديث عن حركة الحضارة، فهي نتيجة لتطور الثقافة، ولكن ما هي الحضارة من حيث المفهوم، وبعيداً عن المعنى اللغوي الآنف الذكر؟ وهناك تعريفات أخرى لعلماء شرقيين بدءاً من ابن خلدون، وحتى العديد من المفكرين المعاصرين، تؤكد في مجملها، أو في بعض منها، على مجموعة من العوامل الأخلاقية والمادية التي تمنح المجتمع الفرصة كي يوفر لكل فرد، وفي كل مرحلة من مراحل حياته، التعاون اللازم للنمو... وهناك من يكتفي باعتبار الحضارة مجرد نهضة تكنولوجية وصناعية، ويقصرها على النهضة الأوروبية دون غيرها. أما الدكتور ولايتي في كتابه: "الإسلام وإيران"(1) فهو يعرّف الحضارة أو المدنية بأنها نتاج الرقي الثقافي وقبول الانتظام الاجتماعي، كما أنها الخروج من حالة البداوة والانطلاق في مسار الشؤون الاجتماعية المنتظم. ويظهر من هذا التعريف تقدم واضح، وأهمية بالغة لدور الثقافة، ووسائل الإدارة في تحقيق الانتظام الاجتماعي للخروج من البداوة إلى التمدن. ويعتبر بحثه في هذا المجال جديراً بالقراءة. والحقيقة أن كل تلك التعريفات بحاجة إلى نقاش مستفيض، من أجل التفريق بين ما هو ثقافي كالقيم الأخلاقية والمعرفية والتقنية، وبين ما هو حضاري، بما تعنيه الحضارة من مشروع إنساني إحيائي، يهدف إلى بسط مفاهيم وقيم وثقافات وأنماط على مساحة ما من الأرض، ولفترات زمنية تطول أو تقصر... فعندما نسمع عن الحضارة الإسلامية مثلاً، فإنه يتبادر إلى الذهن ما يتعلق بالمعنى اللغوي من الانتشار الجغرافي والديموغرافي والحقب الزمنية التي سادت فيها تلك الحضارة في العالم...

ونجد أيضاً ما يتعلق بالمفهوم الاصطلاحي، الذي يصبغ كل حضارة من الحضارات ويجعلها متميزة وذات خصوصية عقائدية ومسلكية وثقافية. ويمكننا أن نلاحظ أن البنية الثقافية الإسلامية، والتطور الصناعي أو الزراعي أو ما شابه ذلك من العلوم، والتطور في النظم والأدوات، لم يكن هو السبب في تعميم النموذج الحضاري الإسلامي، بل كان نتيجة له، وكذلك الحال في جميع الحضارات الأخرى، لذلك يمكننا أن نعتبر أن الحضارة من حيث المفهوم، هي ذلك الشي‏ء الذي يحرك أمّة ما باتجاه صناعة تطور تكنولوجي أو ثقافي، وما شابه ذلك، وتعميم تلك المنتجات على أوسع رقعة ممكنة من الأرض. وعلى الأقل بالنسبة للحضارة الإسلامية، فإننا يمكن أن نعرف المشروع الإسلامي في هذا المجال على أنه: مشروع عقائدي بالدرجة الأولى يتم تعميمه عن طريق جملة من التشريعات والأنظمة والقوانين. والحضارة بما هي مفهوم يمكن اعتبارها نفخة الحياة في ذلك البنيان العقائدي، والذي انطلق منذ بداية الدعوة بشكل أساس بدافع الإيمان قبل أية دوافع أخرى. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ...(الأنفال/24).

فالحضارة هي حياة الثقافة، فإذا امن بثقافة ما شخص ما أو جماعة، فهناك حضارة معينة حيّة، وإذا نهض هذا الفرد أو الجماعة لتعميم أنموذجهم الثقافي فهناك حضارة قائمة بقدر ما يستطيعه ذلك الفرد وتلك الجماعة من الثبات في الدفاع عن مشروعهم. ومن هنا فإن الحضارة الإسلامية، بعكس ما ينظر له من هرم وشيخوخة وموت الحضارات، لا يمكن أن تموت ما دامت حية في قلوب الملايين، وقابلة للنهوض، متى ظهر الحق، وقام.


 (1) التعريفات السابقة مأخوذة من الكتاب عينه، فيرجى الرجوع إليه.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع