ايفا علوية ناصر الدين
إن أهمية وجود القدوة في حياة الإنسان رجلاً كان أو امرأة تفترض حسن اختيار الشخصية التي سترتسم له مثالاً أعلى يقتدي به ونموذجاً يستلهم من سيرته الدروس والعبر. وبخصوص القدوة في حياة المرأة المسلمة على وجه التحديد يمكن الحديث عن النساء العظيمات اللواتي تركن نماذج خالدة في تاريخ الإسلام وعلى رأسهن سيدة نساء المسلمين بل "سيدة نساء العالمين" بما يستبطنه هذا اللقب من معاني العظمة والسمو الكافية لتجسيد الصورة الحقيقية للقدوة في حياة المرأة اليوم خصوصاً في ظل ما يشهده واقعها من تشويه وابتذال للقيمة الأنثوية التي تمتلكها واعتبارها كمقياس للتفاضل والتمايز على حساب المعايير المعنوية والروحية التي تضمن للمرأة المحافظة على الصورة الإنسانية في ظهورها العام والتي تؤهلها للقيام بأسمى الأدوار في المجتمع.
وانطلاقاً من ذلك لا بد من وضع هذا السؤال برسم الإجابة عند كل امرأة مسلمة تهدف إلى تحقيق النموذج الأكمل الذي أراده الإسلام لها: هل تمثل الزهراء بما زخرت به حياتها من تجسيد للأهداف السامية قدوة "فعلية" للمرأة المسلمة؟ أما السؤال الذي يمكن الإجابة عليه هنا والذي يمكن طرحه بصيغ ووجوه متعددة: أيُّ قدوة تمثِّل الزهراء في حياة المرأة المسلمة؟ ما هي القواعد التي يمكن للمرأة المسلمة استلهامها من الزهراء القدوة؟ وهل تجد كل امرأة في أي موقع كانت: أم، زوجة، فتاة وأي صفة اتخذت: عالمة، مرشدة، مجاهدة ملامح القدوة في حياة السيدة الزهراء؟ مثلت السيدة الزهراء النموذج الأرقى لشخصية المرأة في أدوارها المتعددة وإذا كان المقام هنا لا يتسع لاكتشاف جميع ملامح القدوة في حياتها فإنه يمكن التركيز على أبرز الأدوار من خلال إطلالة على دورها كفتاة وزوجة وأم وعلى موقعها كمرشدة في المجتمع وقد تختصر هذه العناوين في طياتها الحديث عن الجوانب الجهادية والعبادية وغيرها.
* الزهراء جمال الفتاة في عفتها
إنَّ توجه الفتاة لاكتشاف نفسها وتحديد معالم شخصيتها يأخذ الحيز الكبير من اهتمامها في المراحل الأولى لنضوجها ومن ذلك الاهتمام بالمظهر الذي تبدو عليه ولذلك فإن الفتيات اللواتي لا يمتلكن الحصانة الإيمانية الكافية قد يقعن في تأثير النماذج التي تقصد التركيز على إبراز شخصية المرأة من خلال المواصفات الخارجية فقط وتغيب لدى هؤلاء الفتيات النماذج الكاملة للمرأة التي تجسّد حقيقة الإنسان، من هنا تلحظ السيدة خديجة سلوم مديرة معهد سيدة نساء العالمين ضرورة وجود السيدة الزهراء في حياة الفتاة كقدوة وأن تكون حاضرة لديها كنموذج تستقي منه الدرس الأهم وهو: "أن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يخلق المرأة لتكون فقط شيئاً جميلاً ولكن لتشكّل مركزية المجتمع وهي التي من حضنها معراج الرجل" وهذا ما يؤكده النظر إلى الجانب الجمالي في شخصية الزهراء فهي التي: "سميت بالزهراء لأن وجهها كان يزهر لأهل السماوات والأرض وهذا فيه تعبير إضافة إلى إيمانها وكمال نورها كما تفيده كلمة "لأهل السموات" عن مدى جمالها ولكنه لم يشكّل أبداً محوراً لشخصيتها ولم يصرفها للتركيز عليه ولا للاهتمام به للتباهي والتفاخر لأنها كانت تعي أن اللَّه خلق الإنسان ليترك بصمته في المجتمع فالشكل يزول ويفنى ولا يبقى من الإنسان إلا روحه وآثار أعماله". هذا إلى جانب التأكيد على أن الفتاة التي تتجه إلى إبراز الجمال الخارجي في شخصيتها من دون النظر إلى الآفاق الأخرى: "قد تصل إلى حدود الانهيار فقد تتغير معايير الجمال بحسب الموضة في كل زمان أما الأهداف السامية التي تسعى الفتاة لتحقيقها لا يمكن لأية موضة أن تغيرها يوماً". ولذلك فقد كان الحجاب العنصر الموجه لحركة المرأة التي حين تستر مفاتنها تحدِّد للآخر وجهة النظر إليها: "ليس كامرأة فقط بل كإنسان يمتلك طاقات وقدرات يمكن استثمارها في المجتمع وهذا هو النموذج الراقي الذي مثلته السيدة الزهراء بتجسيدها لأرقى معاني العفة والطهارة" وفي حياة الزهراء الفتاة أيضاً عبرة لا بد من الوقوف عندها بحسب السيدة سلوم وهي: "كانت شخصيتها متقدمة على عمرها بحيث أنها وعت للمسؤولية التي وضعت في إطارها بكل جدارة فبالرغم من فقدها لوالدتها في عمر مبكر وفي الوقت الذي كان فيه الرسول صلى الله عليه وآله في خضم صراعه مع المشركين لنشر رسالة الإسلام نرى أنها في مقابل حاجتها للتعويض عن غياب الأم قد وقفت إلى جانب الرسول داعمة وحاضنة له حتى سميت بأم أبيها". وفي خلاصة الحديث يأتي التأكيد أن الدرس الذي نستلهمه من الزهراء الفتاة هو "أن الفتاة الراقية هي التي تجسد إنسانيتها لما هو في خدمة المجتمع والسير به نحو الأفضل".
* الأسرار الثلاثة في الحياة الزوجية
العنوان الثاني للحديث عن القدوة في شخصية الزهراء عليها السلام هو الحياة الزوجية التي قدمت فيها أسمى القواعد لحياة مليئة بالرضى والسكون والعمل في حدود مرضاة اللَّه عزَّ وجلَّ ولا بد من الإشارة إلى أن الحديث هنا يتطرق إلى الخطوط العامة دون الخوض في التفاصيل التي يذكر فيها الكثير من الأمثلة والشواهد. وعند الحديث عن الزهراء الزوجة تتوجب الإشارة أولاً كما تقول السيدة هناء نور الدين مبلغة وكاتبة إسلامية إلى موضوع "الكفؤ الذي مثلّه كل من علي وفاطمة عليها السلام لبعضهما في جوانب الإيمان والفكر والروح والطهارة والجهاد حتى أضحت حياتهما نموذجاً مليئاً بالمعاني والقيم". وأول ما يمكن البدء به هو أول ما بنت عليه الزهراء عليها السلام حياتها الزوجية والذي شكل درساً استثنائياً لما يتضمن من المعاني وهو: "مهرها المتواضع وجهازها الذي دخلت به بيتها والذي اقتصر فقط على الضروريات" وفي إطار استعراض ملامح دورها كزوجة يمكن تلخيص ذلك بالأسس الثلاثة التي انطلقت بها للنجاح في زواجها والتي يعبر عنها "حديث دار بين علي وفاطمة عليها السلام في أيامها الأخيرة حيث قالت له عليها السلام: ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عرفتك فقال لها عليه السلام: أنت أبر وأتقى واعرف باللَّه من أن أوبخك في شيء من ذلك". وهذه هي الأسس الثلاثة البر والتقوى ومعرفة اللَّه التي جعلت الزهراء تعيش كأفضل ما تكون الزوجة محبة ووفاء ورعاية وطاعة". حديث آخر نستشف منه أجواء الرضا والهدوء والاستقرار النفسي الذي كان يخيم على البيت الزوجي الذي كان منطلقاً للعمل والجهاد وإحياء الرسالة: "يقول علي عليه السلام: ما أغضبتها مرة في حياتي معها ولم تغضبني ولم تعص أمري مدة حياتها معي وهذا دليل الانسجام الذي كان قائماً بينهما حيث كان الإمام عليه السلام إذا نظر إليها تنكشف عنه الهموم والأحزان وكان يرى على وجهها الرضى والشكر والحنان والقناعة وبالمقابل كان يعطيها من عقله وفكره واستقامته وأخلاقه وعاطفته الشيء الكثير فكانت هي أيضاً تتنفس الإسلام من خلال علي عليه السلام وهذه جميعها دروس للنساء والرجال معاً". وفي ما يتعلق بالاهتمام بأمور المنزل فلقد جسدت الزهراء "إنسانة العطاء وهي التي كان بيتها بنظرها انساً وراحة واستقراراً وقد قدمت فيه من جهودها وطاقتها بوعيها واختيارها وهو ما خلاصته أن على المرأة أن تفكر بالحسابات الإلهية دائماً". أما خير مثال على ما مثلته الزهراء في حياتها كزوجة فنجده "في طيات وداع أمير المؤمنين لفاطمة عند فراقها له حيث قال مخاطباً رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "قلَّ يا رسول اللَّه عن صفيتك صبري... ورق عنها تجلدي إلا أن لي التأسي بعظيم فرقتك...".
* المفاتيح الذهبية لكل أم
سيرة حياة السيدة الزهراء عليها السلام لم تكتب بطريقة تتلمس كل المنعطفات بدور الأمومة في حياتها لذلك نجد كما تؤكد الأستاذة أميرة برغل مشرفة على الإرشاد التربوي في مدارس المصطفى أن الزهراء الأم هي تلك الزهراء العظيمة التي "أنجبت عظماء والكتب تكتفي بذلك كدليل على أنها اتقنت الأمومة على أكمل وجه. كيف اتقنت؟ لا توجد تفاصيل لأن كتب السيرة ليست كتباً تربوية مبرمجة على أساس المفردات التربوية ولكن إذا نظرنا إلى الأمر كتربويين علينا الالتقاط من الأحداث المتفرقة عناصر الأمومة في حياة السيدة الزهراء". ولعل أول درس أعطته الزهراء عليها السلام في جانب الأمومة هو ما برهنت على أنها كانت تمتلكه قبل أن تكون أماً وهو: "الحب والصبر الذي أعطته لأبيها عندما جعلت من نفسها الحضن الدافئ والملجأ الذي يلوذ به ويستمد منه العزيمة على مواجهة صعوبات الحياة وما أعطته لأبيها أعطته بالطبع لأبنائها". الدرس الثاني الذي أعطته الزهراء الأم في حياتها والذي لا تلتفت جميع الأمهات إلى أهميته في نجاح دور الأم وهو: "العطاء دون تذمر فقد تعطي الأمهات ولكن يتذمرن نتيجة التعب أو الشعور بأنهن كُلفن بأكثر من طاقتهن وهذا له انعكاس سلبي كبير على الأولاد أما الزهراء فقد كانت تخفي آلامها على زوجها وأولادها وكانت تعمل في رضى لتأمين الحاجات المادية الأساسية كافة من طعام وشراب ولباس وحاجيات فقد سقت بالقربة حتى أثر ذلك في صدرها وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها... كما يقول الحديث". وحول الاهتمام ببناء شخصية الأولاد من كل الجوانب ووفق المراحل المختلفة تؤكد الأستاذة برغل أن بعض التفاصيل في حياة السيدة الزهراء تدل على أنها كانت تهتم بالنمو العقلي والروحي لهم بما توحي اليوم آخر البحوث التربوية على صعيد النمو العقلي والانفعالي والاجتماعي والحس الحركي وأول إشارة على ذلك: "أوردت كتب السيرة أن الزهراء كانت تلاعب الحسن عليه السلام قائلة: أشبه أباك يا حسن، وأخلع عن الحق الرسن، وأعبد إلهاً ذا منن... على شكل أناشيد وهذه تدلنا على أنها كانت تتوسل لتربية شخصية أولادها عبر اللعب والإنشاد وهو ما تؤكد عليه النظريات التربوية، ولكن الأمر الملفت أنها كانت تُضمّن هذه الأناشيد دروساً ومعاني سامية يتعلمها الطفل وليس كما نفعل اليوم عندما نغني له: تك تك يا أم سليمان...".
ومن المفاتيح الذهبية التي تقول بها التربية الحديثة اليوم والتي كانت قد اعتمدتها الزهراء عليها السلام ضمن وسائل تربية أولادها: "مسألة الحوار ولدينا عليها دليل غير مباشر اكتشفه أمير المؤمنين عليه السلام من خلال الحديث مع السيدة زينب عليها السلام فقد كان يحدثها عن تفسير القرآن وكانت تسأله أسئلة عميقة فُدهش لما تملكه من معلومات وعمق في التحليل فوجد أنه من المناسب إخبارها بما سيأتي عليها فقالت له أمي أخبرتني بكل ذلك وهيأتني لغدي وهذا يعني أن الزهراء عليها السلام كانت تتقن هذه العملية الحوارية". أما العنصر الثالث أو المفتاح الثالث من المفاتيح التي امتلكتها السيدة الزهراء عليها السلام لتربية وبناء شخصية أبنائها فهو: "القدوة الحسنة لهم من خلال تجسيد الأخلاق العالية والإنسانية في حسن معاشرة الزوج وفي العطاء والإيثار والاهتمام بشؤون المؤمنين والدعاء لهم وفي رفض الظلم. التعلم والتعليم حيث كان بيتها مدرسة للمسلمات وحتى للمسلمين. الاهتمام بشأن الرسالة والدفاع عن الإسلام بحيث أعطت لبيتها دون أن تنسى الشأن العام وهذا يؤسس للتوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع".
* دواء اكتشفته الزهراء عليها السلام
يمكن للمرأة أن تستفيد من دور الزهراء الإرشادي في مسيرة عملها وحياتها وذلك من خلال لحاظ حالين: في الحالة الطبيعية وفي الحالات الضرورية كما تشير السيدة زهرة بدر الدين مديرة حوزة السيدة الزهراء للعلوم الإسلامية ففي الحالة الطبيعية حيث لا ضرورات ينبغي على المرأة أن تكون: "شديدة العفة والحياء وأن تجتنب كل المواقف التي من الممكن أن تخدش حياءها والذي به تكون شخصية المرأة ووجودها الإنساني، هذا الحياء الذي أكدت على أهميته كثير من الروايات سواء عند الرجل أو عند المرأة، والسيدة الزهراء عليها السلام كونها امرأة تعلم الداء الذي تتعرض له المرأة فكانت الطبيبة الحاذقة حين اكتشفت الدواء وقد ظهر ذلك من خلال كلامها: خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يروهن وقد ترجمت ذلك جلياً عندما احتجبت عن الرجل الأعمى وبررت ذلك بأنه: إن لم يكن يراني فإني أراه وهو يشم الريح".
أما في ما يخص الدور الإرشادي الطبيعي الذي قامت به تجاه النساء "فكانت مقصداً للنساء اللواتي كن يفدن عليها من كل صوب وجهة للتعرف على أمور دينهن وحل مشاكلهن فكانت تجيب على الأسئلة بكل رحابة صدر دون تأفف أو تعب". وأما الاستفادة من دورها الإرشادي في الحالات الضرورية فهو يبرز من خلال "ما تملكه من الصفات والمزايا والعلم والحكمة كأبيها وقد ظهر ذلك في عدة مواقف منها:
أولاً: عند خروجها للدفاع عن حقها المسلوب وخطابها الحكيم أمام القوم وقد هدفت من خلاله إلى تأكيد عدم سكوت الإنسان إذا ظلم وهدر حقه وخاصة إذا كان هذا الحق دفاعاً عن مصالح الإسلام والمسلمين.
وثانياً: ما تميزت به خطبتها الشريفة أمام الملأ التي عجز العلماء عن فهمها وإدراكها وهنا لا بد من القول أن خروجها إلى الناس لا ينافي الحياء والعفة لأنه إذا اقتضت الضرورة والمصلحة وكان في خروج المرأة وكلامها مع الرجال الأجانب مصلحة عامة للإسلام والمسلمين فإن هذا مطلوبٌ بمقدار الضرورة...".