الشيخ علي سليم
لدى مراجعة الآيات القرآنية والأحاديث القدسية ووصايا الأنبياء والأولياء عليهم السلام يتبين بوضوح وجلاء مدى تأثير الدعاء في تهذيب النفس وتطهير القلب وبلوغ أعلى مراتب القرب ورضا الرب تبارك وتعالى.
* دعوة الرب إلى الدعاء
فهذا الرب الرحيم ينادينا بكل رأفة ولطف ورقة وعطف: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(البقرة/186). فما أحسنه من بيان وجواب وما أرقه من أسلوب و خطاب من رب العالمين إلى الناس أجمعين، إذ أسبغ صفة العباد عليهم ونسبهم إليه وإن بعدوا عنه وتمردوا عليه. "وفيه دلالة على كمال العناية بالأمر.. ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال: فإني قريب ولم يقل: فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن، ثم الإتيان بالصفة دون الفعل الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه، ثم الدلالة على تجدد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله: أجيب دعوة الداع بقوله: إذا دعان، وهذا القيد لا يزيد على قوله: دعوة الداع المقيد به شيئاً بل هو عينه، وفيه دلالة على أن دعوة الداع مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(المؤمن/60)، فهذه سبع نكات في الآية تنبئ بالاهتمام في استجابة الدعاء والعناية بها"(1). والغاية من هذه العناية هي وصولهم إلى الهداية وخلاصهم من الضلالة والغواية، وتحقيق هذه الغاية السامية لا يكون إلا باستجابة العباد لربهم ولما أمرهم به من الدعاء، وإيمانهم به وبما وعدهم به من الإجابة.
* حقيقة الدعاء
"والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي"(2) وهو طلب الداني من العالي كما ذكر علماء البلاغة أي طلب العبد الذليل من سيده العزيز والمخلوق الضعيف من خالقه القوي وإلا لم يكن دعاءً حقيقةً بل كان مجرد لقلقة لسان لا يتعدى شحمة الآذان فضلاً عن أن يصل إلى الواحد الديان. "... فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أدير صدقاً أو كذباً، جداً أو هزلاً، حقيقة أو مجازاً..."(3).
* جهة الدعاء:
ومن هنا يمكن لنا أن نفهم لماذا لا يستجاب دعاء كثير من الناس؟ فيبقى دعاؤهم محجوباً ولا يكون مقرباً لهم لأنهم لم يحققوا جهة الدعاء كما سماها الإمام الصادق عليه السلام: "وقد قال رجل من أصحابه إني لأجد آيتين في كتاب الله اطلبهما فلا أجدهما. قال: فقال عليه السلام: وما هما؟ قلت: ادعوني استجب لكم فندعوه فلا نرى إجابة، قال عليه السلام: أفترى الله أخلف وعده؟ قلت: لا، قال عليه السلام: فمه؟ قلت: لا أدري قال: لكني أخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه، قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: تبدأ فتحمد الله وتمجده، وتذكر نعمه عليك فتشكره، ثم تصلي على محمد واله، ثم تذكر ذنوبك فتقر بها، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء"(4).
* الأبعاد المعنوية للدعاء:
إذن لا بد أن يكون الإنسان داعياً بالحال والجنان قبل أن يدعو بالمقال واللسان، أي أن يعيش حقيقة ذل العبودية وفقر المملوكية لربه وسيده العزيز الغني ويوقن بأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً وأن يكون لسان حاله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾(الأنعام/162). وبعيش الإنسان روح العبودية والمملوكية ينعكس الدعاء في نفسه آثاراً عملية وخطوات سلوكية، طاعةً وخشوعاً وتواضعاً وخضوعاً وسجوداً وركوعاً، فينقطع إلى ربه عن كل ما سواه ولا يكون همه إلا في وصله ورضاه فيكون مصداقاً للآية الكريمة: ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾(الأنبياء/90) وممتثلاً لأمر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بالفزع إلى اللَّه واللجوء والتضرع إليه والمسألة منه والاستعانة به. فقد روي عنها في عدة الداعي أنه قال: "إفزعوا إلى الله في حوائجكم، والجأوا إليه في ملماتكم، وتضرعوا إليه وادعوه، فإن الدعاء مخ العبادة"، وقال: "وإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله".
وفيه إرشاد إلى التعلق بالله في السؤال والاستعانة بحسب الحقيقة، "فإن هذه الأسباب العادية التي بين أيدينا إنما سببيتها محدودة على ما قدَّر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير، بل ليس لها إلا الطريقة والوساطة في الإيصال، والأمر بيد اللَّه تعالي، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب"(5) وكيف يركن إلى الأسباب وهي بيد رب الأرباب الذي فتح لعباده أوسع الأبواب وهو باب الدعاء وليس دونه حجاب، إذ أوحى اللَّه إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه: "وعزتي وجلالي لأقطعن أمل كل آمل أمّل غيري بالإياس ولأكسونه ثوب المذلة في الناس ولأبعدنه من فَرَجي وفضلي، أيأمل عبدي في الشدائد غيري، والشدائد بيدي ويرجو سواي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني؟". كما دلَّت آيات كثيرة وروايات وفيرة على "أن عمدة أركان الدعاء وآداب الداعي، هو الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطاة القلب اللسان والانقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك.."(6).
* الآثار الظاهرية للدعاء:
هذا فيما يتعلق بالآثار القلبية والباطنية للدعاء والتي لا بد أن يكون لها انعكاسات شكلية وظاهرية من قبيل.
1- رفع اليدين:
فقد روي في عدة الداعي: "أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين. وعن الباقر عليه السلام: "ما بسط عبد يده إلى اللَّه عزَّ وجلَّ إلا استحيى اللَّه أن يردها صفراً حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على وجهه وصدره".
2- بكاء العينين:
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أن اللَّه تعالى أخبرني فقال: "وعزتي وجلالي ما أدرك العابدون درك البكاء عندي شيئاً فإني لأبني لهم في الرفيق الأعلى قصراً لا يشاركهم فيه غيرهم". وروي "أن بين الجنة والنار عقبة لا يجوز منها إلا البكاؤون من خشية اللَّه" وروي "كل عين يوم القيامة باكية إلا ثلاث: عين بكت من خشية الله وعين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله".
3- بصوت حزين:
وروي أنه كان فيما أوحى اللَّه إلى عيسى عليه السلام: "يا عيسى أدعني دعاء الغريق الحزين الذي ليس له مغيث، أذلَّ لي قلبك وأكثر ذكري في الخلوات، واعلم أن سروري أن تبصبص إلي، وكن في ذلك حياً ولا تكن ميِّتاً وأسمعني منك صوتاً حزيناً".
4- السجود وتعفير الجبين:
وفيما أوحى الله إلى موسى عليه السلام: "يا موسى كن إذا دعوتني خائفاً مشفقاً، عفِّر وجهك في التراب واسجد لي بمكارم بدنك، واقنت بين يدي بالقيام وناجني حيث تناجيني بخشية من قلب وجل"(7). فالخلاصة أن للدعاء أبعاداً معنوية باطنية جوهرها التوحيد والإخلاص والشعور بالفقر و النقص والضعف والذل والحاجة إلى الله الغني الكامل القوي العزيز القادر، كما أن له آثاراً وانعكاسات شكلية ظاهرية، أعراضها كيفية وفعلية وانفعالية ينطق بها اللسان وتمتد لها اليدان وتسجد الأبدان وتدمع فيها العينان.
(1) تفسير الميزان، ج2، ص31.
(2) م.ن.
(3) تفسير الميزان، ج2، ص32.
(4) م.ن، ص42.
(5) تفسير الميزان، ج2، ص40.
(6) م.ن، ص35.
(7) م.ن، ص38.
(7) المراقبات، ص150 و151.