الشيخ إبراهيم بدوي(*)
لم يكن دور علماء الدين في يوم من الأيام مختلفاً عن دور الأنبياء من جهة الأخذ بيد الأمم نحو الهداية الإلهية في طريق الخير والوصول بهم إلى واحة الحق، وهؤلاء هم العلماء الربَّانيون الذين نذروا أنفسهم لخدمة البشرية ووقفوا حياتهم على طاعة اللَّه والدعوة إلى طاعته، ولكن في نفس الوقت كان البعض ممن يتزيون بزي العلماء، سبباً في حصول الانحرافات العقائدية أحياناً، وعلة دخول الشّقاق إلى صفوف الأمة أحياناً أخرى، وهم المتحجرون ووعاظ السلاطين الذين اتخذوا علومهم وسيلة للعيش وأداة لاكتساب المال والسلطة. إذن، العلماء هم وسيلة نجاة الأمم إن صلحوا، وهم أنفسهم سبب انحطاطها إن فسدوا، ولقد صدقت المقولة الرائعة التي تقول: إذا فَسُد العالِم فَسُد العالَم. ومع الثورة الإسلامية الرائدة التي قادها الإمام الخميني العظيم، قدس اللَّه سرَّه الشريف، بمعونة ثلَّة من العلماء المخلصين حيث تمكن من نزع جذور ظلم الشاه وإحلال دولة العدل والإسلام محلَّه، وإقامة حكم اللَّه في أرض إيران، برز دور علماء الدين بكل وضوح في كلتا الجهتين اللَّتين أشرنا إليهما؛ الجهة المضيئة، والجهة المظلمة. وتناولت الأقلام العلماء ودورهم ومقدرتهم العلمية والقيادية، ما استدعى تدخُّل الإمام نفسه لقول كلمة الفصل في هذا المجال، وبكل وضوح وحيادية. ففي الخطاب الذي ألقاه في الخامس عشر من شهر رجب الموافق للثاني والعشرين من شهر شباط من عام 1989 للميلاد، تحدث بإسهاب عن هذا الأمر، وأخذ في معالجة أمر في غاية الأهمية والدقة، ليس لأحد في هذا العصر إمكانية التحدث فيه.
* العلماء المجاهدون والشهداء
بدأ الإمام بالحديث عن العلماء المجاهدين، الذين لعبوا أدواراً أساسية في انتصار الثورة وفي المحافظة عليها من خلال مواقفهم الصلبة من الحرب التي فرضها العالم "المتحضر" على الثورة الفتية، ومن خلال مشاركتهم الفعلية في جبهات القتال وتقديم الأرواح رخيصة في الذود عن حياض دولة الإسلام من جهات أخرى، فتراه يقول: "عندما نتجاوز مجاهداتهم العلمية، التي هي بحق من جهات عدّة أفضل من دماء الشهداء، نجد أنهم في كل عصر من الأعصار قد تحمَّلوا الغصص والمرارات في الدفاع عن مقدساتهم الدينية والوطنية، فبالإضافة إلى الأسر والنفي والسجن والأذى والمضايقات وجراحات الألسنة فإنَّهم قدَّموا بين يدي الحق تعالى شهداء أجلاء...". هذه المعلومة كان لا بد من تسجيلها على صفحات التاريخ كي لا يتمكن المزورون له من طمس جهادهم وإدراجهم في زاوية الفئة الحاكمة أو الطبقة الدينية المتسلطة (الإكليروس)، فهم كانوا مؤمنين بالقضية، وقاتلوا، وقدَّموا عدداً من الشهداء، أكبر نسبياً مما قدمته الشرائح الأخرى من شرائح المجتمع الإيراني، وهذا بالضبط ما حرص الإمام على بيانه بقوله: "وفي النهاية المشرِّفة للحرب المفروضة فإن عدد الشهداء والمعاقين والمفقودين من الحوزات هو الأكبر بالنسبة إلى شرائح المجتمع الأخرى... لقد استشهد أكثر من ألفين وخمسمائة من طلاب العلوم الدينية في أنحاء إيران في الحرب المفروضة، وهذا الرقم يدل على مدى استعداد الروحانية للدفاع عن الإسلام والدولة الإسلامية في إيران".
* العلماء المزيفون
لكي لا يتوهم أحد أن الإمام ينطلق في بيان مقام علماء الدين المجاهدين من منطلق الانحياز لزملائه في الدور وأشباهه في الزي وأمثاله في الصنف، أشاح بنظره إلى تلك الفئة منهم والتي يمكنه نقدها بكل صراحة، فوصفهم بقوله: "إن خطر المتحجرين والمقدَّسين المزيفين الحمقى في الحوزات العلمية ليس قليلاً... على الطلاب الأعزاء أن لا يغفلوا لحظة عن التفكير بهذه الأفاعي الرقشاء... هؤلاء هم مروجو الإسلام الأمريكي وأعداء رسول اللَّه...".
* في مواجهة التدين الزائف
ما الحل يا ترى في مواجهة هؤلاء؟ ليس من حل سوى أن يقوم العلماء المخلصون الواعون لإثبات أن نهجهم بالعمل والفعل لا بالقول والإشكالات الحوزوية التفصيلية التي لا تغني ولا تسمن في مواجهة الاستكبار: "كان الحل الوحيد هو الإيثار والدم، وقد هيّأ اللَّه أسباب ذلك... فوقف العلماء وطلاب العلوم الدينية يستقبلون بصدورهم كل سهم مسموم يُرمى به نحو الإسلام... وتقدَّموا إلى مسلخ العشق". "وقد وقع أول وأهم الفصول الدموية للجهاد في عاشوراء الخامس عشر من خرداد... لم تكن المواجهة مع رصاصة بندقية ورشاش الشاه، ولو كان ذلك فحسب لكان سهلاً، بل بالإضافة إلى ذلك كانت داخل الجبهة الداخلية رصاصة الاحتيال والنسك الكاذب والمتحجر... حتى أنهم كانوا يلصقون تهمة "تارك الصلاة" و"شيوعي" و"الجاسوس الإنكليزي" بالأشخاص الذين كانوا يقودون الصراع". ولعل أكثر ما آذى الإمام، بل آذى الإسلام، أن أولئك الذين كانوا بالأمس يحرِّمون العمل السياسي ضد الشاه، أمسكوا بدفة الصِّراع بعد انتصار الثورة في مواجهة دولة الإسلام، فأين صدقيتهم إذن في كل ما كانوا يدَّعونه؟! "أولئك الذين لم يكونوا يجيزون لأنفسهم أن يتدخلوا في السياسة أصبحوا (اليوم) حماة لأشخاصٍ وصل بهم الأمر إلى حد الإعداد للإطاحة بالنظام والانقلاب عليه". لقد مارسوا المزاجية في كل ما فعله النظام الإسلامي ويفعله حتى لو كان صائباً، ومن تلك القضايا محاكمة الروحانيين: "مع أنه لا فرق في بلدنا في تطبيق العدالة بين الروحاني وغيره، إلا أنه عندما يواجه مذنب من الروحانيين... بما يقتضيه الشرع والقانون والحزم، ترتفع فوراً أصوات العصابات: أن كيف جلستم تتفرجون؟ إن الجمهورية الإسلامية تريد أن تقضي على الروحانية وتسقطها من درجة الاعتبار... وإذا كان الشخص أحياناً مستحقاً للعفو تنطلق أبواق إعلامهم لتقول: إن النظام يفضِّل الروحانيين على غيرهم...". وكم ذكَّرَنا الإمام"قدس سره" بعدالة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وعدالة علي عليه السلام عندما أعلن بكل ثقة ووضوح: "يجب أن يعتبر الناس ذلك دليل عدالة النظام الذي لا يرى امتيازاً لأي شخص. واللَّه يعلم أنني شخصياً لا أعتقد لنفسي بأية حصانة وأي حق وامتياز... وإذا صدر مني عمل منافٍ فأنا مستعد للعقاب". ويعلن الإمام رضوان اللَّه تعالى عليه بكل بصيرة عن الحل الجذري لهذا الموضوع، إنه تطهير الحوزات من هؤلاء الأفراد ومواجهتهم بحزم كي لا يستخدمهم الاستكبار أدوات نفوذية داخل الجسم الإسلامي فيقودوا الناس إلى الهاوية.
"إن محل البحث الآن هو: ما العمل للحيلولة دون تكرار تلك الحوادث المريرة والوصول إلى الاطمئنان باستئصال نفوذ الأجانب من الحوزات... أول واجب شرعي وإلهي هو حفظ وحدة الطلاب والعلماء الثوريين وانسجامهم...". نعم إن وحدة علماء الدين المخلصين هو سبيل الخلاص الوحيد من براثن الاستكبار والتدين الزائف الأمريكي.
(*) عالم دين
(1) المقصود هنا أن الإمام لديه أمثال كثيرة إذا سئل عنها يجيب.