مقابلة مع الشاعر عمر الفرا
حوار: ولاء إبراهيم حمود
أخيراً، ها هو الحوار الذي سعيت إليه مباشرةً، بعد وقف عدوان تموز. وشاءت إرادة اللَّه تأخيره، ربما ليتزامن نشره مع مرور سنة على وقف العدوان الغاشم... الذي كان فيه الشاعر "عمر الفرَّا" بقصيدته "رجال اللَّه" رفيق كل لحظاتنا الصعبة... ولأن السعي كان حثيثاً لحواره، فقد سألته عن كثير من القضايا، عن النقد، الشعر البدوي، المرأة ولكنه كان لا يستطيب الحديث إلا في ظلها هي التي وافقني وصفها "بأجمل الإناث لفظاً والأبطال انجازاً" إنها المقاومة، التي كانت وستبقى وحدها وموطنها، هوى قلبه... لذلك؛ أنشر في الذكرى السنوية الأولى لانتصار الوعد الصادق الجزء الخاص بها وبسيدها العظيم.
* كذا صار الدمُ العربي سكيناً وذبَّاحا...
متى قاتل هذا الدم وانتصر في وجدان عمر الفرَّا؟
يوم انسحاب إسرائيل من منطقة الجنوب، رغماً عن أنفها أدركت أن الدَّم العربي أصبح سكيناً وذبَّاحاً، ولم يعد، كما كان من قبل، مذبوحاً ومهدوراً. وحين كانت كل محاولاتنا للنيل من إسرائيل فاشلة وكنا نحن المغلوبين، المهزومين، ظهرت المقاومة اللبنانية وانتصرت جنوباً، واستبسلت نيابة عن كل العرب.
* يتساءل الكثيرون عن جدوى القصيدة في مواجهة عُتُو وعنف صواريخ إسرائيل الفراغية، بمَ يُجيبهم شاعر، قلبه "جنوبي الهوى"؟
ربما يكون هذا التساؤل الذي يطرح بجدِّية قضية دور الشعر في مواجهة العدوان، وجيهاً، إلاَّ عند العرب، فالقصيدة العربية، "طول عمرها"، مقاومة، مقاتلة، مع الجيش تدفع الجنود إلى التضحية بالنفس وإلى الصمود والتصدي.
* كيف تجلَّى هذا الدور في قصائدك أنت؟ ما الذي قدَّمته قصائدك لشعوبنا المقهورة... لشبابنا العربي المحبط؟ لرجال اللَّه كما أسميتهم؟
هذا السؤال لمن تفاعل مع شعري من غير المقاتلين. صدِّقي أنني كتبتها للمقاتلين على الجبهات ولكن أحد الشباب الذين كانوا يسمعونني ألقي قصائد للانتفاضة قال لي صادقاً: "إنني أنا وزملائي في هذه اللحظة مستعدون لنذهب للقيام بعمليات استشهادية في الأرض المحتلة". هذا هو دوري وقد اختصره الرئيس الراحل حافظ الأسد، بقوله يوماً عن شعري، إن قصيدة عمر الفرا تعادل فرقة دبابات، نعم للقصيدة دورٌ كبيرٌ في المعركة.
* وأنا أسألك عن هذا الدور، لا عن انفعالٍ مؤقت ينطفئ لحظة انتهائك من إلقاء قصيدتك قبل نزولك عن المسرح.
لقد كتبت الشعر المقاوم ونشرته لكي لا يبقى "محرِّك لحظة"، بل ليصل للعالم كله، محركاً تاريخه الآتي، وقد وصل، فقد نشرت صحيفة بريطانية، أثناء الحرب، قصيدة (رجال اللَّه) ووقفت عند عبارة "لهم في الموت فلسفة، فلا يخشونه أبداً" فدعت هذه الصحيفة لجنة مختصين لدراسة فلسفة الموت عند هؤلاء المقاتلين المقاومين لدرجة أنهم لا يخشونه أبداً، بل يقدمون أنفسهم قرابين تضحية بسهولة في سبيل اللَّه. وأظن أن هذا الدور يتجاوز بكثير مسألة الانفعال المؤقت إلى الدفاع عن هؤلاء المقاومين أمام الآخرين ويدعو إلى محاولة فهمهم في هذا المجال.
* ما الفرق بين شعر ما بعد نكسة الخامس من حزيران 1967 وما بين شعر الانتصار 25 أيار 2000؟
هناك أكثر من فرق، ولكن الأهم هو التساؤل الذي كان يحكم عندي فترة الهزائم، أين كانت المقاومة اللبنانية؟ أين كان سيد المقاومة؟ أعرف أنه كان صغير السن حينها ولكن ألم يكن له بديل؟ تقولين عبد الناصر! كلنا نحبه، ولكن إذا رجعت بتاريخي فإن ما حققه حسن نصر اللَّه من كسر شوكة العدو، أكبر بكثير مما فعله سواه أو أي أحدٍ آخر من انتصار، كان سيمنع في الأصل من وجود شعر النكسة، وهو قادرٌ اليوم على حذفه من ديوان العرب المعاصر، فبالمقاومة ومبادئها، لا نكسة بعد اليوم...
* هل وصلتك أصداء الشعر المقاوم في لبنان؟ وهل ترى في حدود ما اطلعت عليه منه، أنه استطاع تجسيد عظمة الفعل المقاوم، أم أنه يعيش تجاه هذا العظيم أزمة اثبات هوية وانتماء؟
كنت سابقاً أُحسُّ أن الشعر العربي وشاعره أيضاً مهزومان، حتى ظهرت المقاومة وحررت الأرض والإنسان وكسرت أنف العدو، أدركت يومها أن الأفق اتسع للشعر وأن الحياة عادت له، وأنني أمشي في طريق الحرية وأدرك بحدسي الشعري أنها ليست بعيدة، وأتوقع التحرير الكامل في أقرب فرصة إن شاء اللَّه. أما عن علاقة الشعر بالمقاومة، فأنا تمنيت لو أنني عشت في الجنوب مع هؤلاء المقاومين الذين نذروا أنفسهم للَّه والوطن لكنت كتبت أفضل مما كتبته بكثير. أدرك تماماً أن ما كتبته وما كتبه سواي ومهما بلغ من جمالٍ وجودة، هو ضئيلٌ جداً، أمام القصائد التي كتبها هؤلاء الأبطال. هم أكبر الشعراء، لأنهم كتبوا بدمائهم أكبر الملاحم البطولية في تاريخ العرب، لذلك يتقزم أمام عظمتهم شعري وشعر سواي ولا نملك سوى الانحناء إجلالاً لأرواحهم.
* إذاً، كشاعر وكإنسان ما هو أصعب ما عانيت أثناء عدوان تموز، وما هي أبرز ملامح وخطوط هذه المعاناة المزدوجة؟
أكيد أنا عشت هذه الأزمة كشاعر أثناء العدوان وقد عبرت عن هذه الأرض، "لو أسطيع أعبرها على رمشي". ثمة فرق كبير بين الحقيقة التي تفوق ما قدمته وسواي والعاطفة الإنسانية. الحقيقة هي جهاد المقاومين وهذا أكثر مما فعلناه نحن وإن كان جهاداً آخر بالكلمة، أما كإنسان فقد كنت أتأثر كثيراً، كلما ظهرت على الشاشات أم مفجوعة ولكنها تقول: نذرت ابني وزوجي، وأحفادي ومنزلي إلى هذه الأرض وفداءً لسيد المقاومة السيد حسن نصر اللَّه الذي لم يعد رجلاً عادياً، بل صار رمزاً للمقاوم المنتصر، الذي أعاد للوطن سيرته الأولى الناصعة، وحريته وكرامته، وقال عن إسرائيل إنها ليست إلاّ وهماً، والذي وقف يقول، للزعماء العرب وللشعوب العربية، "قفوا معي لأحرِّر لكم كل فلسطين".
* أي زمن حرَّك في داخلك أوتار القصيدة: زمن الهزائم بأحزانه ومآسيه وأشخاصه أم زمن الانتصار بأمجاده ورجاله؟ ومن هو الإنسان الذي أطلق من أعماقك قصيدتك جارفةً كالسَّيل، هادرةً كالشلال؟
عشت طوال عمري، رغم انكسار مشاعري، على أعتاب الهزيمة، أبحث عن بطل، عن محرِّض. وأدرك أنني منذ صلاح الدين الأيوبي، لم ألتق بهذا الرجل، حتى ظهر سيد المقاومة، حسن نصر اللَّه، الذي تجسّد في أرواح وفي دماء كل المقاتلين المقاومين. وأنا حين كتبت عنه، عنيت به كل مقاوم في هذه الأرض في شخصه إباءُ كل المقاومين. أشعر عندما أراه، أنني أعبر التاريخ ألفاً وأربعمئة سنة، لأرى رجلاً مجاهداً من أيام رسول اللَّه نذر نفسه لإعلاء كلمة اللَّه والجهاد لتحرير الوطن... لذلك أنحني أمام عظمته... وأنا أرى فيه عظمة المقاومة ومجد كل مقاوم.
* كتبت عن المرأة في كل حالاتها الاجتماعية (حمدة، كوثر...) وكتبت عنها مقاومة كسناء محيدلي. مع تقديري الكبير لما قامت به سناء، يحق لي أن أسألك عن النساء اللاتي نذرن أنفسهن للَّه؛ ماذا عن أم ياسر زوجة السيد عباس الموسوي، التي أدركت معه "فلسفة الموت" الشهادة التي ....؟
قاطعني بسرعة: أعذريني الشاعر ليس كاتب نفوس. هناك الكثيرون وأنا كتبت عن الرمز وهو يناسب الجميع... قاطعته بدوري لأقدم له موجزاً عن أم ياسر ففاجأني بالقول: "تمنيت أن يحدثني أحدٌ عن أم ياسر، فأنا لا أعلم عنها شيئاً". احترمت صدقه، تماماً كما أعجبتني سابقاً قصائده؛ وانقلب الحوار بيننا... وتبادلنا الأدوار هو السائل وأنا المجيبة وعندما وصلت بحديثي إلى عبارتها الشهيرة، للأسيرات المحرَّرات "سبقتُنَّني بالأسْر، سأسبقكن بالشهادة"، وقد فعلتْ، قاطعني طالباً مني ورقة لأكتب له عليها عبارة أم ياسر مبدياً(1) تأثره الشديد واعجابه بهذه السيدة الجليلة والمجاهدة الأصيلة واعداً بكتابة قصيدةٍ لها، على الورقة نفسها، على أن نسمعها جميعاً في أقرب فرصة... ومع عطر الشهادة الموسوية، انتهى الحوار، في محور المقاومة معه، بسؤالين مختصرين أجاب عنهما باختصار أكبر:
* أين تحب أن تُقيم آخر مهرجاناتك وأهمها وما هي أحب قصائدك إليك؟
في القدس بعد تحريرها بإذن اللَّه، أما أحب قصائدي فهي التي غنيت فيها المقاومة التي أنشد لها قبلي من وهبها عمره وروحه.
* كانت آخر كلماته في هذا الحوار... لمجلة بقية اللَّه.
"ينصركم اللَّه ويثبت خطاكم فأنتم واللَّه مجاهدون في طريق آخر يؤدي أيضاً إلى الانتصار والتحرير".
ومع أمنيته الأخيرة لنا... أترككم بدوري مع أمنيتنا الأخيرة لنا وله وهي أن نلتقيه يوماً على بوابة القدس قرب باب مسجدها الأقصى نصغي ثانيةً لنبرة الحب الصادق منه، يلقيها عنه وعنا... تحية أقل الوفاء... لمن سيصلون إلى تلك اللحظات المجيدة والأمكنة الشريفة... وهم لن يكونوا حتماً إلا الذين قال عنهم يوماً إنهم: "رجال اللَّه يوم الفتح" وفي كل العالم الإسلامي بإذن اللَّه.
(1) صفَّق طويلاً تحيةً للصدقِ العظيم في كلمة الشهيدة الجليلة ولكنه أعلن أن تصفيق الجماهير له هو مأزقه الحقيقي على المسرح، وهو لا يقبله إلا في ختام قصيدته.
سوريا حلب نبل
علي الباشا
2023-12-17 21:17:41
كلام من القلب جميل جدا ورائع