تحقيق: زينب صالح
إنّها الحرب... ورجالٌ أعاروا الله جماجمهم، فعانقوا النّصر قبل أن يروه. أحداثٌ كثيرة، يخالها العالم محضَ خيال، لكنّها كانت واقعاً عايشوه بكلّ تفاصيله. وفي الوقت الذي خاف العالم كلّه حرباً هو ابتدعها ضدّهم، وقفوا هم ببسالة، يدافعون بسعادة، معانقين يوميات وصلنا بعض تفاصيلها، والكثير يبقى سراً، بين الله ورجاله.
*الحسين، بوصلة العشق
"بماذا أعتذر إلى الله من عدم أداء واجبي تجاه الحسين يا أبتِ؟"، عبارة قالها أحد مجاهدي حرب تموز لوالده الضرير قبل أن يذهب للقيام بواجبه الجهادي في قريته عيتا الشعب. مشهد يختصر العشق المعتّق بأسى الوداع والهجرة نحو الحسين...
هم ليسوا ملائكة، بل رجال تركوا عائلاتهم وأحلامهم وحياتهم ونظروا نحو الأفق، علّهم يلتقون بنصرين لا ثالث لهما، العزّة أو الشهادة. فـ"شادي" كان مدلّل أبيه وأمّه، صاحب الوجه الوسيم والقامة الرشيقة، أراد الاقتران بالفتاة التي يحبّها، لكنّه لم يخرج مع النازحين عندما اشتعلت الحرب في تموز 2006. وعندما قال له أحد الإخوان في المعركة: "اذهب يا شادي إلى حياتك، ما زلت صغيراً، عمرك لم يتجاوز العشرين، تزوّج، وأنجب أولاداً يملؤون حياتك، نحن هنا نقاتل بدلاً عنك"، أجابه: "قد أعيش إلى الستين والسبعين، لكن ماذا أقول لسيدي الحسين عندما ألقاه وقد ولّيت الأدبار كي أعيش؟". وبعد انتصار آب، كان له عرس، ليس إلى عروسه، بل إلى روضة الشهداء.
والأمثلة كثيرة، فمنهم من قضى ومنهم من ينتظر...
*روح واحدة
يقول ساجد: "في ساحة الحرب نحن عشرات ومئات وربما آلاف، لكنّنا نصبح روحاً واحدة، نطبّق أوامر قادتنا، وكل منّا يحاول أن يفدي الآخر بحياته". ثم تدمع عينه مستذكراً بعض تفاصيل الجهاد في تموز قائلاً: "عام 2006 أصيب أحد زملاء الجهاد المقرّبين، فشعرت بقلبي ينفطر، لكني تمالكت أعصابي. أخذت عنه الجعبة، وربطت الجرح كي يتوقف النزيف، ثم حضنته وقلت له: لا تقلق سأوصلك إلى مكان آمن وستشفى إن شاء الله، وستعود لنكمل الجهاد سوية. وفعلاً عاد بفضل الله. ويحدث كثيراً أن يصاب أحد المجاهدين، فننقله إلى مكان آمن حتى يداويه ذوو الاختصاص. نجتمع حوله، نروي له الفكاهات ونحاول قدر المستطاع أن نخفّف عنه، وننسيه ألمه. أما إذا استشهد أحد منّا، فنتعاهد على إكمال درب الجهاد حتى نأخذ له بثأره ولا نضيّع دمه هدراً".
*خشوع متّصل بالسماء
"في ساحة الحرب، لا يثبت إلّا من كان ذا إيمان راسخ وعقيدة لا يهزّها حبّ الدّنيا". هكذا استهلّ "أبو علي" كلامه، سارداً بعض تفاصيل ما عاشه مع الرجال حال مناجاتهم مع ربّهم: "نحن تركنا عائلاتنا وأولادنا وبيوتنا. ما من شيء في الدنيا قادر على إبعاد الأب عن أولاده في الحرب سوى عشق أكبر لربّه". ثمّ يتابع: "في أوقات الصلاة، كنّا نشعر بأنّ أرواحنا تهاجر بعيداً عن أصوات الضرب والنيران نحو السماء، نقرأ القرآن، نشعر بأنّه يمنحنا دفعاً كبيراً نحو الأمام وبقوّة كبيرة تسري في أجسادنا. لا نغفل عن الأدعية قدر المستطاع، فلا نقطع دعاء كميل، ولا دعاء التوسّل ولا الندبة. أحياناً كان يضطرّ الأخ القارئ إلى رفع صوته عالياً كي نسمعه، لكنّ ذلك لم يثننا عن الخشوع عند كلّ كلمة يقولها. وإذا لم نتمكّن من الاجتماع، كان كل منّا يقرأه على طريقته. فالقرآن وكتاب الدعاء كالسلاح، لا نفارقهما أبداً، لأنّ نصرنا من عند الله".
*روح الفكاهة وهدوء الأعصاب
لا تخلو جلسات المقاومين من الفكاهات وأحاديث استذكار العائلات والأحبّة. يقول ساجد، أحد قياديي المقاومة: "لا تخلو جلساتنا من الضحك والمزاح، لأننا نحتاج إلى الترويح عن أنفسنا، كما نحتاج أحياناً إلى تناسي أصوات القصف".
يقول الحاجّ منير: "دخلنا في أيام الحرب، أنا وأحد المجاهدين إلى أحد البيوت، فأخرج من البرّاد الحليب وحضّر (الكورن فليكس)، وتناوله مع الحليب. ضحكت منه، وقلت له: نحن في حرب وأعصابك هادئة إلى هذا الحدّ؟! فابتسم وقال لي: ما دمنا الآن ننتظر الأوامر لنتحرّك، فلماذا لا أحافظ على هدوء أعصابي؟".
*أهل البيت كانوا معنا..
يُجمع المقاومون على أنّ النصر كان دائماً بفضل الله ودعوات أهلهم المؤمنين. ولطالما لمسوا تدخّلات إلهيّة يخالها العقل أحياناً محضَ خيال. سنورد هنا بعض القصص التي عاشها المجاهدون أنفسهم:
أ- أربعة حراس: يقول ساجد: "كنّا مجموعة كبيرة، وأوكلت الحراسة في تلك الليلة إلى أربعة شباب. طوال الليل، كنّا نرى خيال أشخاص أربعة يحرسون المكان دون ملل أو انقطاع. وفي اليوم الثاني، عندما سألناهم، كيف كانت الحراسة الليلة الماضية، أجاب الأوّل: لقد غلبني النعاس ونمت، وكذلك قال الثاني والثالث، أمّا الرابع فقال: "كنت أغالب النعاس وجلست أراقب فقط".
ب- عادت الروح إلى السلاح: كان "أبو علي" يرمي ما تبقّى معه من رصاص، وفجأة تعطّل سلاحه، وصار يصلحه حتّى فقد الأمل من ذلك واحتار في أمره، ظنّاً منه بأنّه أصبح من دون سلاح، وفجأة "عادت الروح إلى السلاح وصرت أرمي به بشكل أفضل من ذي قبل".
ج- لكنّ الله رمى: صاح قائد المجموعة بي بعد أن أطلقت النار: "أحسنت يا مصطفى أحسنت، لقد أصبت الهدف وفجّرت الملّالة". فقلت له متعجباً: "لكنّي لم أرمِ إلى ذلك الاتجاه!".
د- لا أحد هناك: قال أحد المجاهدين: "جاءني الأمر بالخروج من الحارة التي كنت فيها، وما إن خرجت حتّى بدأت النيران تطلق باتّجاه العدو، فتعجبنا جميعاً لأن أحداً منّا لم يكن هناك".
هـ- أنا أحرسكم: كنّا خمسة في بيت من بيوت القرية القديمة، وفجأة غلبنا النعاس ونمنا لساعات طويلة في الليل، وعندما استيقظنا قال أحد الإخوة: "لقد رأيت الإمام عليّاً عليه السلام في المنام يحرسنا بردائه ويقول: ناموا يا أحبّائي أنا سأحرسكم. نظرنا حولنا فوجدنا البيت متصدّعاً من القصف دون أن يصاب أحد منّا بأذى".