الشيخ أحمد إسماعيل
لقد أولى الإسلام عناية خاصة بالوالدين ورعاهما رعاية لا نجد مثيلاً لها في غيره من الأديان، حتى أنه سبحانه وتعالى قرن الإحسان إليهما بعبادته، فقال عَزّ من قائل ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾(الإسراء: 23)، وقال أيضاً: ﴿لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (البقرة: 83). ومن خلال هاتين الآيتين وغيرهما من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (الأنعام: 151) يتبين لنا أنه تبارك وتعالى قد ذكر الإحسان مباشرة بعد توحيد اللَّه وعدم الشرك به عزَّ وجلَّ، وهذه رتبة لا يُستهان بها ومنزلة رفيعة للوالدين قلّما يدرك أبعادها ومغزاها الأبناء.
* تقدير الوالدين
يعتبر على ضوء ما تقدّم، أن الإحسان لهما هو المؤشِّر الكبير على مدى علاقة الأبناء باللَّه واهتمامهم بالقيم الإلهية، فقد كانت الزهراء عليها السلام بما لها من مكانة في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله تقول: "ما استطعت أن أكلِّم أبي من هيبته". حتى أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يدعو اللَّه أن يجعله يهابهما هيبة السلطان العسوف أي الظالم ، تقديراً لهما وتعظيماً لشأنهما، وهي هيبة الأبوة والأمومة التي يشعر بمعانيها العارفون والمدركون. ورد في دعاء الإمام السجاد عليه السلام لوالديه في الصحيفة السجادية: "اللهم اجعلني أهابُهُما هيبة السلطان العسوف وأبرّهما برَّ الأم الرؤوفِ، واجعل طاعتي لوالديَّ وبرّي بهما أقَرَّ لعيني من رقدة الوسنان أي من أخذه النعاس وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثِرَ على هوايَ هواهُما، وأقدّم على رضايَ رضاهما". إنها تعاليم الإسلام العالية والعظيمة، فيا ليت أمتنا تعي هذه الحقيقة التي غفل عنها الكثير ممن يحسبون أنفسهم على الإسلام، الذين يُغيّبون عن حياتهم قيمه ومفاهيمه، ليتحول الإسلام عندهم إلى ادّعاءات ومزاعم ويكونوا كالبط السابح في الماء، فلا يتأثر به ولا يبدله. فمن منا نحن الذين نتحدّث عن الإسلام ليل نهار يقدّم رضى الوالدين على رضاه؟ ومن يؤثر هواهما على هواه هو؟ ومن منا يبرّهما برّ الأم الرؤوف العطوف على ولدها، ويهابهما كما يُهاب السلطان الجائر الظالم؟ إننا وللأسف الشديد نلاحظ أن من يعيش المودة فيما بينه وبين والديه وهذا مطلوب ومحبوب قد تصل به الأمور إلى إسقاط الأدبيات معهما على طريقة أنها "أهلية ومحلية"، فلا ينظر بعدها إلى هيبتهما. بل إن البعض من هؤلاء يمازح والديه مزاحاً يخرج فيه عن الأدب والاحترام، وكأن هؤلاء وصل بهم الأمر إلى إسقاط كل أدبيات التعامل مع والديهم، ظناً منهم أنهم قد بلغوا رتبة تصاعدية، بينما هم ينزلون وللأسف الشديد، وهذا بحد ذاته قد يوصل إلى عقوق الوالدين.
* عقوق الوالدين
كما أن الإحسان لهما له قيمته ومنزلته في الإسلام، فإن عقوقهما يُعدّ جريمة كبرى وله آثاره السلبية في الدنيا والآخرة أعاذنا اللَّه . فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لو علم اللَّه شيئاً هو أدنى من أفٍّ لنهى عنه، وهو من أدنى العقوق، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما"(1). ونلاحظ هنا في هذا الحديث عن صادق أهل البيت عليهم السلام، أن الإسلام لم يتحدّث عن العقوق بعناوينه العريضة فحسب، بل اهتمّ بتفاصيل وجزئيات العقوق، إلى الحدّ الذي ذكر فيه بعض المصاديق من قبيل كلمة "أف" وهذه كلمة صغيرة جداً، يعلم اللَّه أن لا كلمة أصغر منها إلاّ أنه سبحانه ذكرها في كتابه المجيد ليُعلم المخلوقين مدى ما للوالدين من واجبات وما لهما من حقوق ومدى فداحة عقوقهما. ومن العقوق النظر إليهما بالنظرة الحادّة، أو بروح ماقتة لهما، أو رفع الصوت، هذا فضلاً عن رفع الأيدي وضربهما، أو العبوس، أو تقطيب الحاجبين بوجهيهما، والأمثلة كثيرة. في الحديث القدسي: "لو أن العاقّ لوالديه يعمل بأعمال الأنبياء جميعاً لم أقبلها منه"(2). وعن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: "من أصبح مساخطاً لأبويه، أصبح له بابان مفتوحان إلى النار"(3). وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من نظر إلى أبويه نظر ماقت، وهما ظالمان له، لم يقبل اللَّه له صلاة"(4). وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "يُقال للعاقّ: إعمل ما شئت، فإني لا أغفر لك"(5). وعن الإمام الصادق عليه السلام: "ملعون ملعون من ضرب والديه، ملعون ملعون من عقّ والديه"(6. وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "إياك وعقوق الوالدين، فإنّ ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاقّ"(7). وعنه صلى الله عليه وآله: "من أدرك والديه ولم يؤد حقهما فلا غفر اللَّه له"(8).
* عواقب العقوق
نلاحظ ونحن نقرأ في تلك الروايات مجموعة من الآثار الوضعية التي تترتب على هذه الوصية الكبيرة، والتي هي من أشدّ أنواع قطيعة الرحم وأمسّها، وطبيعي أن عقوبة وآثار قطع الرحم هي دنيوية وأخروية. فكما مرّ معنا، أن العاق لا يُقبل منه عمل، وأنه يُفتح له بابان إلى النار، وأنه لا يُغفر له، ولا تُقبل منه صلاة، وأنه ملعون أي مطرود من رحمة اللَّه. وأن ريح الجنة تبعد عنه مسيرة ألف عام. وهناك آثار تضيق المقالة عن ذكرها، ومن باب المثال لا الحصر نذكر أثراً له علاقة بالاحتضار. الشاب العاق المحتضر: ذكرت الرواية أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حضر عند وفاة شاب وكان النبي يطلب منه قول "لا إله إلا اللَّه"، إلا أن الشاب اعتقل لسانه مراراً فسأل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: هل لهذا أم؟ قالت أمه: نعم، أنا أمه. فسألها النبي: أفساخطة أنتِ عليه؟ قالت: نعم، ما كلمته منذ ست حجج (ست سنوات)، قال لها: إرضي عنه، قالت: رضي اللَّه عنه برضاك يا رسول اللَّه. فقال له رسول اللَّه: قل "لا إله إلا اللَّه"، فقالها، فقال النبي: ما ترى؟ فقال: أرى رجلاً أسود قبيح المنظر وسخ الثياب منتن الريح قد وليني الساعة فأخذ بكظمي، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: قل يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، إقبل مني اليسير واعف عني الكثير، إنك أنت الغفور الرحيم، فقالها الشاب"(9)، وللرواية تتمة. ونستفيد من هذه الرواية أن العاق لوالديه يُختم له بسوء العاقبة أعاذنا اللَّه جميعاً ، مع أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أفضل مخلوق عرفته البشرية هو مَن كان يلقن الشاب الشهادة، إلا أنه لم يستطع أن ينطق بها ما دامت أمه غير راضية عنه.
أما إذا تحدّثنا عن بعض آثار العقوق في الدنيا، فهي لا تحصى ولن نستطيع الخوض في تفاصيلها هنا. ولطالما حُدّثتُ من قبل الكثير من المؤمنين الذين يُوفّقون في حياتهم وتجاراتهم بسبب إحسان الأبناء للوالدين، وأن الأبناء يشعرون ويتحسسون آثار ذلك بأسرع ما يمكن، وإنه تبارك وتعالى لا يُؤجِّل جزاء المعروف بحق الوالدين. وقبال ذلك نجد كيف أنه سبحانه يُعجّل عقوبة من يؤذي والديه. ولو استطعنا إجراء استقراء أو استفتاء في آثار العقوق في مجتمعاتنا، لوجدنا أن الأرقام والنتائج مرعبة ومخيفة حقاً، لكن قلّما نجد من يعتبر، فهل من يدرك هذه الحقيقة ويعتبر؟
(1) جامع السعادات، ج2، ص271.
(2) جامع السعادات، ج2، ص271.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) ميزان الحكمة، ج10، ص716.
(6) المستدرك، ص631.
(7) جامع السعادات، ج2، ص272.
(8) بحار الأنوار، والذنوب الكبيرة للشهيد دستغيب، ج1، ص131.
(9) الذنوب الكبيرة، ج1، ص132.