د. بلال نعيم
لقد خلق الله الإنسان ، وأول ما خلق فيه العقل، الذي جعله الملك والحاكم والمسيطر على جميع الملكات الأخرى له، لأن العقل في حال خلّى نفسه فإنه يطيع الحق ويخضع له، لأن للحق منطقه والعقل خاضع لذلك المنطق. ومن أجل أن يختبر الإنسان في الحياة الدنيا، جعل الله إلى جانب العقل نفساً ذات حركة جوهرية قابلة للتسافل أو للتكامل، تبعاً لخضوعها لجنود الحق المرتبطة بالعقل، أو لانقيادها لجنود الجهل التي يغذيها الهوى وحب الدنيا. وإن جنود الحق هي نفسها جنود العقل التي يغذيها ويقويها التفكر والتدبر وسبر أغوار الكون، والبحث عن الحكمة في الوجود، وفي الأشياء، وفي النظام، وفي المفردات المتوفرة في الأنفس، وفي ملكوت السماوات والأرض. وفي مقابل جنود العقل تنطلق جنود الشيطان جنود الجهل التي تقوى بالهوى وبحب الدنيا وبالرذائل والمعاصي والآثام. وتدور في كل حادثة وعند كل اختبار وعند كل مدخل معركة طاحنة بين الصفين، وتكون الغلبة بحسب ما يتهيأ للنفس من الغذاء الذي يقوي أحد الطرفين. فعندما يكون العنصر الداخل هو العلم، فإن النتيجة تكون لصالح جنود العقل، وبالتالي لصالح النفس وتزكيتها، لأن العلم نوراني وآثاره نورانية.
* الدعوة إلى العلم:
لقد دعا الإسلام أتباعه إلى العلم والتعلم والتفكر والتدبر والتأمل والتفقه. وقدّسَ العلماءَ وكرمهم، وجعل طلبة العلوم محفوفين بالملائكة، يُسبَّح لهم ويُدعى لهم. وجعل مجالس العلماء مكرمة، ووقر العالم وطلب تكريمه وتبجيله وتقديمه، حيث قال سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11). وجعل الإسلام العلم فريضة، وأمر بها، لا سيما أنه دين يقوم على القناعة الفردية المبنية على الفكر والعلم وعلى التحقق والتبين والتحليل، وخصوصاً في الاعتقاد بالغيب الذي يحتاج إلى التأمل والتفكير في الجزئيات وفي الكليات من أجل الإيمان به، فالله غيب والآخرة غيب، ولا بد من الإيمان بهما من أجل تمامية الاعتقاد بالإسلام، وكل ذلك مبني على العلم وقائم عليه. وأيضاً في مقام السلوك، فإن على الإنسان المسلم أن يتعلم أحكام دينه، وأن يعرف الحلال من الحرام، وأن يعرف الفضيلة من الرذيلة، وأن يعرف ما يجب وما لا يجب، من أجل أن يسلك سلوكاً إسلامياً صحيحاً. وكل ما يجب على الإنسان المسلم فعله، عليه أن يعلمه. فلا مجال للعمل من دون علم. من هنا، كانت أهمية التفقه في الدين وأحكامه، كما دعا الإسلام أتباعه إلى ما يجري من حوله، لأنه مكلف بالتصدي له وبالتعاطي معه، فلا يجوز للمسلم أن ينأى بنفسه عن محيطه وبيئته، ولا يجوز له أن يكون سلبياً في محيطه أو حيادياً لا مبالياً، بل الواجب عليه أن يكون فاعلاً مؤثراً نذيراً وبشيراً، داعياً إلى الحق، مواجهاً للباطل، يدافع عن الإسلام وعن المظلومين، ويصلح من أمور الناس، ويوفر الحاجات للسائلين وللمحتاجين وللمعوزين. وكل ذلك يحتم على الإنسان المسلم أن يتعلم ويتثقف ويتسلح بالحكمة والمعرفة والدراسة وأسباب العلم.
* أهمية العلم في عصر العولمة:
وتزداد الحاجة إلحاحاً إلى العلم عندما تتسع دائرة المواجهة بين المنظومات الفلسفية، وبين النماذج الحضارية التي ستطرح أنفسها على نطاق واسع، لتكون متبناة من شرائح واسعة من البشر، أحد النماذج المطروحة حكماً بلحاظ المواصفات والامتيازات هو الإسلام، الذي ينبغي على أتباعه أن يحسنوا الاستفادة من وسائل العصر وتقنياته، من أجل تقديمه وشرحه وتوضيح مفاهيمه وأحكامه للناس عموماً، مما يعني حكماً الحاجة إلى معرفة العصر وما يجري فيه وما يتحول معه وما يتغير فيه وما يطرأ عليه، والحاجة أيضاً إلى معرفة الوسائل والتقنيات والأساليب والمنهجيات، التي تتطور مع الزمان، وتشكل مقدمات ضرورية لا بد من امتلاكها، من أجل قوة الحضور والتأثير. وهذه المهمة المرتبطة بتقديم الإسلام وحسن التنظير له، وبالترويج لعظيم المفاهيم التي يقوم عليها، أو مهمة الدفاع عن الإسلام وتعزيز أركانه، في قبالة السيول الجارفة للعولمة وما تحمله من غبار وتراب ووحول وآفات، كل ذلك يستدعي أن يكون كل مسلم عاملاً بالغاً، على درجة من الوعي والمعرفة والثقافة التي تسمح له بأن يلعب دوراً في المهام الشاقة، والتي تزداد صعوبة مع التقدم في الزمن، ومع تراكم الاستحقاقات المرتبطة بالمنهج المدني المتقدم، الذي سيثبت جدارته وقوته وثباته، وأنه الحق الذي يجب تعميمه ونشره في هذا العالم.
* الخلاصة:
سواء قلنا بأن تكامل الإنسان يقوم في أحد جوانبه على العلم وعلى آثاره النورانية، في تقوية جنود العقل التي تساهم في تزكية النفس وفي تكاملها وتربيتها، وسواء قلنا بأن العلم واجب على المسلم، خصوصاً في القضايا التي سيُسأل عنها الإنسان يوم القيامة، وبالتحديد ما ينظم سلوك المسلم في اتجاهي فعل الحلال وترك الحرام، وسواء قلنا بأن العلم ضروري لقيام المجتمع ولتحقيق العمارة للدنيا وإصلاحها، وسواء قلنا بأن العلم حاجة ماسة في مقام الدفاع عن الإسلام أو الترويج لأحكامه ومفاهيمه بلغة العصر وإدارته. على كل هذه الافتراضات، فإن المسلم مدعو إلى العلم وامتلاك المعرفة، وإلى سعة الثقافة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن آيات الحكمة التي تصنع المعرفة مقدمة في كل زاوية من زوايا الحياة وما على الإنسان إلا التأمل والتدبر...