الشيخ علي ذوعلم
"عَظُمَ الخالقُ في أنفسِهم فصَغُرَ ما دونَه في أعينهم"(1).
يُعتبر التّوحيد المحور الأساس للإسلام. فهو الدّعامة الحقيقيّة للأحكام والأوامر الدينيّة.
ويعدُّ الاعتقاد بهذا الأصل مبدأ قبول الإسلام؛ فما يساعد على قرب الإنسان من اللَّه تعالى ويعطيه السمو والكمال هو عقيدة التوحيد؛ أما الذي يؤدي إلى رفعة هذه العقيدة العظيمة فهو العمل الصالح والسّلوك السويّ.
لا يُختصر التوحيد طبقاً لهذا الحديث، في الاعتقاد بوجود اللَّه تعالى، بل يجب الاعتقاد بأن لا مؤثر في مصير الإنسان والعالم سوى الله تعالى وأنه الغاية المتعالية عما سواه. فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وكل ما في الوجود هو تجلٍّ من تجليّاته. وعليه يكون الهدف والغاية الحقيقية للإنسان الواقعي هو تحقق التوحيد في الوجود والسعي لأجل السير والقرب من الله.
* أصنام تمنع القرب الإلهي
لا شكّ أنه توجد الكثير من الموانع أمام القرب من الله تعالى، ولعل أهمها وأساسها هو الأصنام التي تجذب الإنسان إليها وتمنعه عن القرب إلى الله تعالى. وقد تظهر هذه الأصنام في أشكال ومصاديق متعددة من خلال الجذب القلبي والعملي لينحرف الإنسان عن جادة الحق إليها. وقد يختلف تجلي الأصنام للأشخاص باعتبار الأوقات والحالات المتعددة. أما وجه الاشتراك بينها، فهو أنها تُقدِّم نفسها بديلاً أو شريكاً لله تعالى، وبدل أن يتقرب الإنسان إلى الله تعالى يتقرب منها ويجعلها مطلوبه ومعبوده.
وهذه الأصنام تارةً تكون هي الحجر والخشب، وتارةً أخرى فرعون، وثالثةً الثروة والسلطة والقدرة، وقد تكون الغضب والشهوة أو التكنولوجيا والقوة العسكرية والاقتصادية أو الأعراف الاجتماعية، أو الزوجة والولد والبيت، أو الرفاه واللذائذ أو الديمقراطية والحرية...
* عندما تعظم المخلوقات
ولكن لماذا تصبح هذه الأصنام جذابة عند البشر؟ لماذا يتحوّل بعض الأشخاص عن عبادة خالق الوجود وغاية الكمال إلى عبادة وتبعية الأصنام؟ السبب الأساس وراء هذا الانحراف الكبير هو أن هذه الأصنام تظهر على صورة كبيرة عند الناس في الوقت الذي لم يستقر أي شيء من عظمة الخالق عند هؤلاء. هذا هو المحور في عمل الأصنام حيث تخطف أبصار البشر فتنفذ إلى قلوبهم لترسم لهم حقيقة ولكن من فراغ وخواء.
* طريق المواجهة
لذا يتحدث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن عظمة الخالق في قلب الإنسان، وأنها الطريق لمواجهة نفوذ جميع الأصنام، فمن أدرك عظمة الخالق وأنه أعلى وأرفع من حدود معطياته الذهنية وجعل له مكاناً في قلبه، فهو بذلك يكون قد أسقط كل الأصنام ولم يُبقِ أي مجال لنفوذها وحركتها. وهذا ما أشار الإمام عليه السلام إليه في خطبة المتّقين حيث قال: "عظُم الخالق في أنفسهم فصغُر ما دونه في أعينهم".
فقد تحدث عليه السلام عن الخالق الذي كل ما دونه هو مخلوق، فالأصنام مخلوقة: وهي إما من مخلوقات الله تعالى لتؤدي دوراً خاصاً في عالم الوجود، وإما من مخلوقات ومخترعات وَهْمِ الإنسان وخياله، وبذلك يصبح لها شأن قائم على أساس الاعتباريات. وعندما تنفذ هذه الأصنام إلى قلب الإنسان وتكبر عنده حينها تصبح شريكةً للباري فتجذبه إليها. ولكن إذا أسقطها الإنسان من اعتباره وأصبح ينظر إليها نظرة احتقار وتصغير فلا يمكنها النفاذ إلى قلبه.
* حال المتقين حقاً
لا يمكن أن يملك المخلوق طريقاً إلى القلب، ولا يمكن لهذه الأصنام أن تحتل مكان الخالق. هكذا كانت مسيرة إبراهيم الخليل عليه السلام وأولاده الذين وقفوا كالسدّ المنيع أمام النماردة، فوجهوا قلوبهم إلى الله تعالى وكان أملهم الوحيد حيث قطعوا كل رجاء أو خوف من غيره.
كلّ هذا لأنهم أدركوا عظمة الخالق في قلوبهم فما وسعت غيره. وهذا هو حال الأتقياء والعظماء على مرّ التاريخ الذين وقفوا على عظمة الخالق فصغرت المخلوقات في أنفسهم ولم تتمكن من استملاك قلوبهم وجوارحهم.
1.نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج2، خطبة 193، ص161.